قضيت أيام جميلة وسط فرحة أمي بولادة طفلي الأول حيث سهرت ليلتها تأرجحه في حجرها مع ترنيمات شجية ناعمة تعمل على تهدئته حتى يغلبه النعاس.
بعد لحظات غط طفلي بنوم عميق وكان يبدو مرتاحا لتلك الترنيمات، وهنا سألت أمي هل كانت تصنع الأمر نفسه معي في صغري؟. تبسمت وقالت: نعم, كما أني سألت أمي نفس سؤالك هذا.
ذكريات
للمهد ترنيمة وعذوبة يستأنس بها الكبير قبل الصغير, وهي تعد من الموروثات الشعبية لجداتنا وأمهاتنا ولها وقع في النفوس لا يوصف..
(بشرى حياة) سجلت هذه الآراء حول ترنيمة الأمهات التي تعد فلكلور عراقي:
تسرد أم ليث ذكرياتها لنا قائلة: "لم أرَ امي فقد توفيت وأنا بعمر الثلاث سنوات, غير أن أبي لم يكف يوما عن الحديث عنها, وكيف كانت تهتم بي في صغري, فقد انجبتني بعد تسع سنوات من الانتظار".
وأضافت بحزن عميق: "بحسب ما قاله أبي بأنها لم تفارق مهدي طويلا حتى حينما تود قضاء أعمال البيت تنقله بين حجرات البيت حتى في المطبخ, وهي تردد ترنيمتها المعتادة وبعض الاغاني التي توضح معزتها بالفتاة والتي كانت: ( البنات.. البنات.. عشرة واكول قليلات).
فيما قالت أزل سلمان: "أنا احفظ الكثير من الترنيمات التي اتغنى بها لابنتي (رتاج) حتى تغط في نوم عميق, كما أني تعلمتهن من أمي فقد رزقت أمي بسبعة فتيات وأنا أصغرهن, فضلا عن سماعي لهن على لسانها وهي تطلقها لأطفال اخواتي, ويبدو أنها كانت تترنم بهن لي في صغري".
أما الحاجة أم رواء قالت: إن ترنيمة المهد انشودة متداولة بين اقراننا نحن الجدات قد ورثناها من امهاتنا.. وهكذا, وهو أمر متعارف منذ القدم, كما أني أجد متعة بالتغني بها وأنا أحتضن أحد أطفالي والآن أحفادي وهي تعبر عن حبي لهم وعدم التكاسل من حملهم".
وأشار أبو ابراهيم بحديثه قائلا: "توفيت زوجتي أثناء الولادة, فقضيت فترة كافية مع صغيري ابراهيم الذي عجزت عن القاء أي ترنيمة له, لا أدري ما السبب لربما أن هذه الترنيمات هو أمر خاص بالنساء فحسب رغم اني كنت أسمع امي تطلقها بين حين واخر حينما تحمله لإرضاعه, أو تغير ثيابه, لكني عجزت عن تعلمها".
موروث شعبي
كل الأمهات يحفظن القصائد والترنيمات الناعمة التي تهدئ صغيرها متى ما أرادته أن يخلد للنوم, أو اسكاته من البكاء, وتكون كلماتها ذات مغزى انساني, أو اجتماعي, مرتبط بحالات انسانية, أو قصة مرت بها, أو حكاية من نسج الخيال, فجاءت بعضها تحمل أحزان الأمهات اللواتي تعرضن إلى مصاعب حياتية, أو عائلية, لذلك كانت بعض الترانيم حزينة.
كما أن أغلب الترنيمات يرتبط بإحساس الصغير والأم معا, إذ يعيشان حالة بين الحزن أو الفرح الذي يصيب الأم, فتتغنى به لصغيرها على شكل مقطوعات تتناغم بصوت خافت وكأنها تبث شكواها لطفلها ليشعر بما تشعر به أمه, فتداعب تلك الكلمات مخيلته حد التعاطف معها, فيبكي تارة على صوتها الشجي, وتارة يصمت وينظر لها.
كما يلعب حضن الأم ودفئه دورا كبيرا في تأجيج العاطفة والحس الأمومي, فضلا عن الأجواء الحميمية التي تفتعلها الأمهات في التغريد لأطفالهن, من أجل أن يشعر صغيرها بالنعاس والنوم بعدها, إذ تحمل الترنيمات بعدا رمزيا للفن العربي الموروث.
وهذا الأسلوب ارتبط بجداتنا وامهاتنا وهي بحد ذاتها وسيلة لا مثيل لها في تلقائيتها, وعفويتها, وكلماتها المؤثرة, حتى انتقلت من جيل لآخره, وصارت إحدى الوسائل المهمة لتربية طفل هادئ ودود حسب آراء بعض الجدات والأمهات.
إن أشهر ترنيمة للأمهات في العراق هي ترنيمة (دللو يا لولد يبني دللو.. عدوك عليل وساكن الجول)، والأم الكردية تردد ترنيمتها الشهيرة (لايه.. لايه.. رولي شيرنم لايه) واشتهرت تنويعات غنائية كثيرة على نفس الوزن, كما أن أصول كلمة دللو لها جذور مشتركة مع جذور الكلمة الكردية دل, وتعني القلب.
وفي الختام يمكننا القول أن ترانيم الأطفال من أعذب الأغاني التي أبدعت صياغتها النساء في مختلف العصور, والأزمان, والبلدان, فمنذ أول يوم تحتضن فيه الأم طفلها وهي تناغيه وتنهده وتغني له, لذلك كانت تحفل بالكلمات الجميلة الخفيفة, لتساعد الطفل على النوم بسرعة.
اضافةتعليق
التعليقات