من التعريفات الجميلة والدقيقة التي يُعَرَّف بها الإنسان في القرآن الكريم أنه عبارة عن [جسد وروح]؛ قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}، أما الجسد، فهو مكوَّن من [ماء وتراب]، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ}، وأما الروح، فهي سرٌّ من أسرار الخالق، كما ورد في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.
وبما أن الروح طاهرة، والماء والتراب من المطهّرات، فإن الأصل في النفس البشرية هو الطهارة، لا النجاسة، والطيبة، لا الخبث. وهذا ما يجعل الإنسان يشعر بمعنى التكريم الإلهي له، إذ خلقه مكرَّماً، واستخلفه على هذه النفس ليحافظ على صبغتها الإلهية. وهذا يمثل دافعاً أصيلاً في الإنسان للبقاء في حالة طهارة، والعودة إلى ربه طاهراً – أي البقاء في حالة صلاح – لأن أصل العلاقات الإنسانية مبنيّ على هذه الطهارة. فالنفس الصالحة تنجذب بسهولة إلى مثيلتها، والعكس صحيح.
وهكذا نتوصل من خلال هذا التعريف إلى فوائد مهمّة في أصل تكوين الأسرة، كما تذكرها الآية:
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
فنجد أن الدعاء المشترك بين الزوجين كان بأن يرزقهما الله ولداً صالحاً. وهذا أمر طبيعي، لأن النفس البشرية تميل إلى الصلاح دائماً، حتى وإن لم تكن صالحة بما فيه الكفاية. ولكن الاحتمال الأرجح، إن تمت شروط هذا الجعل الإلهي، كما في قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}، أن هذا الدعاء يعكس علائم الصلاح الموجودة في نفس هذين الزوجين، اللذين أرادا تحققها في الثمرة الناتجة عنهما.
وفي ذلك إشارة أعمق إلى أن الإنسان الصالح لا يكتفي بما عنده من صلاح، لتكون أعماله صالحة، بل يظل في حالة تضرّع واستعانة بربّه، لتكون ثمرة هذا الارتباط صالحة أيضاً.
وهذا الأصل يؤكده وجود معنى عام للوحدة النفسية في العلاقات الإنسانية، ووجود معنى خاص لها في العلاقة بين الزوجين، كما بينت الآية ذاتها بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.
ولهذا، في هذه الآية لفتة جميلة تستحق التأمّل، وهي في قوله تعالى:
{قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي، إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}،
فنجد أن هذا العبد الصالح طلب صلاح ذريته فقط، ولم يذكر زوجته، التي أنجب منها هذه الذرية، وكأن في ذلك إشارة إلى أن الزوجة قريبة من النفس، بل هي النفس ذاتها، إلى درجة شمولها بكل دعوة فيها ياء انتساب، كما في قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيَّ – أَصْلِحْ لِي – إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ – إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. ففي كل ما دعا به لنفسه، إنما قصد به زوجته أيضاً، فهما واحد، وهذا يؤكد قيمة صلاح النفس، وعمق العلاقة بينها وبين النفس الصالحة التي ارتبطت بها بهذا الرابط المقدس.
وفي المقابل، فإن عدم اشتراك النفوس التي زُوِّجَت في هذه القيمة – أي الصلاح – يؤدي إلى عدم تحقق هذه الوحدة النفسية، كما في قوله تعالى:
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
فوُصِفَ ابن نوح عليه السلام بأنه "عمل غير صالح"، لأنه ثمرة غير مكتملة الصلاح، لم تنتج من زوجين صالحين، كما قال تعالى:
{ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ، كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا، فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا، وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}.
وكأن الآية تشير إلى حقيقة أن صلاح الزوج وحده غير كافٍ لإنجاب ذرية صالحة، مما يبيّن عِظَمَ دور المرأة في إخراج أفراد صالحين للمجتمع الإنساني، ومقدمات ذلك هو أن تكون هي نفسها صالحة.
اضافةتعليق
التعليقات