شعور ملحّ يكبّل معاصمنا ويقلب عال مشاعرنا إلى سافلها محاولين التناسي في الوقت الذي سلمنا أنفسنا فيه إلى الرتابة الحياتية حيث السير بلا هدى وبلا غاية، فاقدين نعمة الركود الداخلي، أكثر اغتراب عن أنفسنا حتى بتنا أقل صبرا الذي هو بمثابة قصعة الخبز الأخيرة التي ستقينا من جوع يمد مخالبه يوميا فينهشنا تلك الصفة التي تهنا ونحن نبحث عنها بينما هي تلازمنا في كل وصية وخطبة وقصة ذات عِبرة كان مفادها: "الصبر مفتاح الفرج" فما هو في النهاية إلا دالة ترشدنا إلى نقطة اليقين ومرآة خلفها تكمن نعمنا التي لا نحصيها ونتجاهلها بتأفأف وعجلة.
حيث يحكى أن ذات يوم مر رجل من الصالحين على رجل لديه اصابة شلل نصفي وكان الدود يتناثر من جنبيه، وكان هذا الرجل أعمى، ووجده يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه، فتعجب الرجل ثم قال له: يا أخي ما الذي عافاك الله منه لقد رأيت جميع المصائب وقد تزاحمت عليك.
فقال له: إليك عني فإنه عافاني إذ أطلق لي لساناً يوحده وقلباً يعرفه وفي كل وقت يذكره.
تلك النعم التي لا يبصرها أغلب العشوائيين المتناسين نعمهم والتائهين عن مسالك الصبر المغمورين بالنكران.
الشعاع الخامس: فضيلة الصبر
الصبرُ في اللغة ويعني الحبس، أما في الاصطلاح فهو يعني حبس النفس عن كل ما لا يحبه الله ولا يرضاه، حيث نعيش اليوم في هالة سوداء كبيرة من الجزع تارة يطلق اللسان نفسه مشجعاً اياها وفي حين آخر تتكفل اليد بالأمر دون تريث أو بصيرة تحيط معاني المواقف، بينما إذا استطعنا أن نتخيل قصر الدنيا وخلود الحياة الآخرة، فسوف ندرك عمق المعنى في كلمات الإمام علي (عليه السلام) في خطبته لوصف أهل التقوى: (صَبروا أَياماً قَصيرَة أعقبتهم راحة طويلَة، تجارة مربحة يسرها لهم ربهم)، لتبرهن على أن حياة الإنسان مهما طال أمدها هي لا شيء في مواجهة الحياة اللانهائية فيعتبر أمير المؤمنين (عليه السلام) تفضيل الحياة الأبدية في الآخرة على الحياة الدنيا القصيرة وغير المستقرة على أنها "تجارة مربحة" للوصول إلى هذا المستوى من المعرفة، حيث لا ينخدع الأتقياء بإغراءات الدنيا ونعمها العابرة، فليس كل ظاهر هو الحقيقة ولا يعلم الإنسان ماقد أبعد الله من ضر عنه وهو الذي يود أن يطيح بعامود أيامه بالعجلة والتسرع، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺼﺒﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺍﻟﺮﺃﺱ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﺴﺪ، قال تعالى: (واصبِر فَإِن اللهَ لَا يُضِيعُ أَجرَ الْمُحسنِينَ)، ﻭمما يبين أهمية الصبر وعظم منزلته في الدين أن الله ذكره في كتابه ضمن ﺗﺴﻌﻴﻦ ﻣﻮﺿﻌﺎ ﻟﻜﻞ موضع ﻣﻨﻬﺎ ﻓﺎﺋﺪﺓ جليلة ومنها:
أولاً: ﺍﻟﺼﺒﺮ ﻋﻠﻰ أداء الطاعة بحيث يحتسب الأجر في فعلها ويصبر على مشقتها ويداوم على فعلها، قال تعالى: (وَاصبِر عَلَى مَا أَصابكَ إِن ذَلكَ مِن عَزمِ الْأمور).
ثانياً: ﺍﻟﺼﺒﺮ ﻋﻦ ارتكاب معصية الله بحيث يجاهد هواه والشيطان واجتناب الفساد وأهله ويصبر على مشقة ترك المألوف، ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ: (وَاللذينَ صَبَرُوا ابتغاءَ وَجهِ رَبهِم).
ثالثاً: ﺍﻟﺼﺒﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻗﺪﺍﺭ المؤلمة بحيث يصبر على مشقتها والآثار المترتبة عليها ويتجنب جميع الأقوال والأفعال، قال تعالى: (الذينَ إِذَا أَصَابتهُم مصِيبَة قَالُوا إِنا للَّهِ وَإِنا إِلَيهِ رَاجِعُونَ).
والناس في مقام الصبر أربعة أصناف:
الصنف الأول: من يصبر على طاعة الله ويصبر عن معصية الله وهذا أعلى الأصناف وهو حال الأنبياء والصديقين والأولياء.
الصنف الثاني: من يصبر على طاعة الله فيواظب على الفرائض ولا يصبر عن معصية الله فيرتكب الفواحش فهذا ظالم لنفسه ولا يدخل في الفضل العظيم للصبر.
الصنف الثالث: من يصبر عن المعصية فلا يغشى الفواحش لسمو نفسه عن الرذائل ولا يصبر على الطاعة فيفرط في الفرائض فهذا مسيئ وهو على شفا هلكة وسوء خاتمة.
الصنف الرابع: من لا يصبر على طاعة الله فيترك الفرائض ولا يصبر عن معصية الله فيغشى الفواحش فهذا شر الأصناف وقد باع دينه بعرض من الدنيا وتعرض لسخط الله وعذابه وهذا حال أهل الفجور.
ﻭالكثير من ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻳﻘﺪﺭ ﻋﻠﻰ ﻓﻌﻞ ﺍﻟﻄﺎعات ﻭﻳﺼﺒﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﺼﺒﺮ ﻋﻦ ارتكاب المعاصي وملازمتها لضعف إيمانه وغلبة الهوى على تصرفاته وصحبته لأهل الغفلة وجهله بالمعاني الشرعية ومن كان لا يصبر عن إدمان المحرمات فلا ﻳﻮﺻﻒ ﺑﺄﻧﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺎﺑﺮﻳﻦ ﻭﻻ ﻳﻨﺎﻝ ﺩﺭﺟﺔ ﺍﻟﻤﺠﺎﻫﺪﻳﻦ لأنفسهم، ومن أعظم صور الصبر عبادة الصوم لأنه اجتمع فيها كل أنواع الصبر الثلاثة ففيها صبر على طاعة الله وصبر عن معصية الله من ترك الشهوات المحببة للنفس وصبر على قدر الله المؤلم والصبر على مشقة الصوم من الجوع والعطش، وحاجة المؤمن للصبر عظيمة لأن الدنيا جبلت على الهموم والأحزان والمصائب وملئت بالفتن ولا يستطيع المؤمن مواجهة ذلك إلا بسلاح الصبر.
اضافةتعليق
التعليقات