صدى صوت تلك الصفعة لا يزال يرن في أذني، أجل صفعتها لأنها سخرت مني عندما قالت بأن رائحتي كرائحة أبي.
أبي ذلك الرجل الطيب، الذي كان عاملا للنظافة، كنت أعود من مدرستي، فيستقبلني بابتسامته العريضة، وحضنه الدافئ، وكلماته التي كانت تزرع في نفسي الأمن والطمأنينة، كنت أعانقه وبقوة وأشم رائحته، وأقول في نفسي ما أطيب وأزكى هذه الرائحة؛ لماذا ينعتونني بأن رائحتي كرائحة أبي، فها هو رائحته كالمسك والعنبر، وكان يجلس معي طوال المساء، ويراجع لي دروسي، وواجباتي، ويزرع في عقلي كلماته المملوءة بالإيجابية، ويلقنني ويردد على مسامعي بأنني سأصبح طبيبة المستقبل .
طالما كنت أتأمل في وجهه، كم أحبه، حتى وإن كان عاملا للنظافة، فهو لم يكن نظيفا في ظاهره ولا بجوارحه فقط، وإنما كان نظيف القلب والروح بكل جوارحه .
في بعض الأحيان كنت أفرح عندما يقلن لي بأنني كأبي.. وخصوصا تلك الفتاة التي كانت طيلة فترة الدراسة تهزأ بي .
مرت فترة وجيزة من حياتي، أنهيت خلالها دراستي الثانوية، ثم الجامعية، والآن أروي لكم حكايتي، وأنا جالسة على مكتبي، ينتظرني العديد من الناس، دخلت عليَّ امرأة، بعد ان أنهيت فحصها وإعطاء العلاج لها، قالت لي: حقا أنت كما وصفوك، تقعين على العلة بسرعة؛ لتعطين الدواء الشافي .
فقلت: هل شممتِ رائحتي؟
ضحكت مستغربة وما دخل الرائحة بالعلاج والدواء؟
فقلت: لا بل ان رائحتي كرائحة أبي.
حقا حينها لم أذكر إلا أبي الذي كان الفتيات يعيرني به، اغرورقت عيناي بالدموع، شوقا ودعوة له بالرحمة، وعلمت أنني ما وصلت له الآن كان بفضل دعائه لي، وفخري به.
فإن ما نصل له من مقام علمي أو ديني رفيع لا يكون إلا ببركة الأبوين ورضاهم .
وأفضل مثال على ذلك السيد المرعشي النجفي الذي يقول: عندما كنت في النجف الأشرف أمرتني أمي ذات مرة أن أدعو أبي للغداء، فلما صعدت الطبقة العلوية من الدار رأيت والدي مشغوفا في مطالعة كتبه وقد أخذه النوم، بقيت متحيرا ماذا أعمل؟ هل أستجيب لأمر أمي وأوقظ والدي من نومه، لعل هذا يسبب ازعاجا وعدم ارتياح له، أم أتركه؟.
فانحنيت وقبلت قدمه عدة مرات وعلى أثر تقبيلي استيقظ والدي من نومه، ولما عرف علاقتي الشديدة به وأدبي واحترامي له قال: شهاب الدين هذا أنت؟
قلت: نعم يا أبتاه، فرفع يديه إلى السماء ودعا قائلا: رفع الله منزلتك وجعلك من خدام أهل البيت عليهم السلام.. ثم قال المرحوم السيد المرعشي: جميع ما أملك اليوم هو نتيجة دعاء أبي، وكان كثيرا ما يقول: ما نلت هذا المقام الرفيع إلا بدعاء أبي.
اللهم اجعلنا ووفقنا لنكون من البارين بوالدينا إنك سميع مجيب .
اضافةتعليق
التعليقات