تُعَدُّ مسألة غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وتأخّر ظهوره من المواضيع المحورية في الفكر الإسلامي حيث شغلت عقول العلماء والمفكرين وأثارت تساؤلات لا تزال مطروحة منذ قرون، كيف يمكن لقائد موعود أن يغيب عن الأنظار بينما يموج العالم بالظلم والجور، وكيف يمكن للغيبة أن تكون جزءًا من مخطط إلهي يمهّد لظهور العدل المطلق، ورغم تعاقب الأزمنة وتبدل الأحوال تبقى هذه القضية ركنًا أساسيًا في العقيدة الإسلامية يتناقلها المؤمنون جيلًا بعد جيل بانتظار اليوم الذي يتحقق فيه الوعد الإلهي.
وقد تناولت العديد من الدراسات والبحوث هذه المسألة من زوايا متعددة محاولين فهم أبعادها ومعانيها والتعمّق في الحكمة الكامنة وراءها فهل هي غيبة اضطرارية فرضتها الظروف أم أنها مرحلة إعدادٍ وامتحان وهل يكمن السر في طبيعة المجتمع البشري أم أن الأمر يرتبط بحكمة إلهية أكبر لا ندركها الآن كل هذه التساؤلات تدفعنا إلى البحث والتأمل في هذا اللغز الإلهي الذي يحمل في طياته وعدًا بالخلاص وميلاد عصرٍ جديدٍ من العدل والحق.
تتعدد الأسباب والحِكَم المحتملة وراء هذه الغيبة، ونستعرض فيما يلي أبرزها:
الخوف من القتل: أحد الأسباب الرئيسة لغيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو الخوف من الاغتيال. فقد كان الخلفاء العباسيون يراقبون ولادة الإمام المهدي نظرًا لما تواتر من الأحاديث النبوية حول دوره المستقبلي في إقامة العدل. لذا، كانت الغيبة وسيلة لحماية الإمام من محاولات القتل المبكرة.
عدم وجود قاعدة شعبية مؤهلة: تشير بعض الدراسات إلى أن تأخر ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) قد يكون مرتبطًا بعدم توفر قاعدة شعبية مستعدة لنصرته. فقد لا يكون هناك العدد الكافي من الأنصار المخلصين الذين يمتلكون الوعي الكامل بأهدافه ورسالته.
الامتحان والاختبار: تُعَدُّ الغيبة اختبارًا للمؤمنين لتمحيص إيمانهم وصبرهم. ففي فترة الغيبة، يُمتحن الناس في مدى ثباتهم على العقيدة وانتظارهم للفرج، مما يميز بين المؤمن الصادق والمُرتاب.
أما إذا قيل: لما لا يزال المهدي متغيبا عن مسرح الأحداث ما زال مخلوقا ومدعوا للاصلاح في عصر فسد أهله.. ولمَ لا يظهر فيقوم بواجم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما زال مرصودا لهذه الغاية؟.. في الجواب إن الله قد جعل لكل شيء قدرا وإن له أمرا هو بالغه ولا يعجل إلا من يخاف الفوت.
ولو استجاب الله لرغبة العباد لاضطر لأن يقيم القيامة وينصب الميزان ويحاسب الناس على أعمالهم فورا ليؤمنوا بالبعث والحساب ولوجب أن يطلع الشمس قبل وقتها استجابة لرغبة مسافر في فلاةٍ يلفحه الصقيع، أو أن ينزل المطر لمجرد حاجة فلاح مضطر لري أرضه ولا صار الله في ملكه ألف شريك وشريك فالبديهي الذي يفترضه خروج المهدي (عليه السلام) هو أن الشروط لم تستكمل وليس من الضروري أن يجري قضاء الله وقدره بحسب رغبات الأفراد وأهوائهم إذ لو فتح مثل هذا الباب من الاعتراضات لجازه أن أقول لما بعث عيسى قبل محمد ولماذا لا يحاسب الله الظالمين في دار الدنيا على مرأى ومسمع من المظلومين.
ولما ولماذا وكيف لا فينفتح باب جدل لا طائل تحته وقد قال الله تعالى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ}.( العنكبوت، الآية 5).
كما إن التجارب التاريخية تُثبت أن المجتمعات التي لم تصل إلى مستوى الوعي الكافي كانت غالبًا ما ترفض المصلحين الحقيقيين كما حدث مع كثير من الأنبياء والأئمة الذين لم يجدوا القبول المطلوب رغم دعوتهم للحق ولذا قد يكون في الغيبة فرصة للمجتمعات البشرية لتصل إلى مرحلة تستوعب فيها مشروع الإمام المهدي دون أن تواجهه بالرفض كما حدث مع المصلحين السابقين.
عدم وقوع بيعة في عنقه لطاغية: من الحِكَم الأخرى للغيبة أن لا يكون في عنق الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بيعة لأي حاكم جائر. فبذلك، يظل حرًا من أي التزام تجاه الطغاة، مما يُمكّنه من إقامة الحق والعدل عند ظهوره. عدم وقوع بيعة في عنقه لطاغية: حكمة إلهية في غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من الحِكَم العميقة في غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أنه لم يُبايع أي حاكم جائر، مما يجعله غير مقيّد بأي التزام سياسي أو ولاء لأي نظام ظالم.
هذه الحكمة تُشكّل أساسًا مهمًا لثورته الإصلاحية الكبرى عند ظهوره، إذ سيكون قادرًا على إقامة العدل دون أي شوائب أو التزامات تعوق مسيرته. ولو نظرنا إلى سيرة الأنبياء والأئمة السابقين، نجد أن بعضهم اضطروا لمبايعة حكّام عصرهم تجنبًا للفتنة أو حفاظًا على حياة المؤمنين، مثل الإمام الحسن (عليه السلام) عندما اضطر إلى الصلح مع معاوية، أو الإمام الرضا (عليه السلام) عندما قَبِل ولاية العهد مع المأمون العباسي.
لكن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يمثل مرحلة مختلفة، حيث إنه سيكون القائد النهائي للحركة الإصلاحية الكبرى، مما يستوجب أن يكون خالصًا من أي بيعة أو ولاء سابق. حيث سيكون ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سيكون بدايةً لعصر جديد من العدالة، ولن يكون من الممكن إقامة هذا العدل الكامل إذا كان في عنقه التزامٌ تجاه أي حاكم سابق. فلو كان قد بايع حاكمًا جائرًا، حتى لو كان ذلك تحت الإكراه، لكان هناك من يطعن في استقلالية قراراته عند ظهوره، ولأصبح مجال التشكيك في شرعية حكمه أكبر، ومن المهم فهم أن غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لا تعني انتظارًا سلبيًا، بل هي مرحلة تمهيدية لبناء مجتمع واعٍ ومستعدٍ لنُصرته. فكما أن الإمام لم يُبايع أيَّ طاغية، فإن على المؤمنين الساعين لنُصرته ألّا يقعوا في فخ الولاء للظالمين، بل يسعوا إلى التمهيد لظهوره بنشر العدل والقيم الأخلاقية في مجتمعاتهم.
أما احتجابه عنّا، فلا يعني أنه لا يظهر لخاصته من مواليه، ولمن يلي أموره وخدمته من التابعين الذين يكتمون سرَّ الله ويحملون أمانة السماء. وهنا يكمن هدف الانتظار، فليتعرف الجميع إلى هوية هذا المنقذ، ليكون لهم نورًا في دياجير الظلام.
الحكمة الإلهية المجهولة:
إنّ الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) تمثل لغزًا إلهيًا لم يُكشف للبشر بشكل كامل كما هو الحال مع كثير من الأقدار الإلهية التي لا يُدركها العقل البشري إلا بعد حين وكما جاء في قصة النبي موسى (عليه السلام) مع الخضر حيث لم يستوعب موسى تصرفات الخضر في البداية ثم أدرك حكمتها لاحقًا قد يكون الحال مشابهًا مع غيبة الإمام المهدي إذ ستتضح أبعادها وحِكَمها بعد ظهوره أن قائمًا على رؤية المعجزات أو انتظار الحلول الجاهزة فقد لا يصمد في زمن الغيبة أما أولئك الذين يواصلون العمل بالحق والعدل رغم عدم وجود الإمام ظاهرًا بينهم فهم من يُثبتون صدق انتظارهم له.
فالغيبة تمهيد لمجتمع مؤهل لاستقبال الإمام وإعداد الأرضية المناسبة لظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فالمجتمع البشري قد لا يكون مؤهلًا بعد لتقبّل نظام العدل المطلق الذي سيقيمه الإمام مما يتطلب فترة تمهيدية يُعاد فيها تشكيل الوعي الديني والاجتماعي ليكون متقبلًا لفكر الإمام وأسلوبه في الحكم.
تشير التجارب التاريخية وتُثبت أن المجتمعات التي لم تصل إلى مستوى الوعي الكافي كانت غالبًا ما ترفض المصلحين الحقيقيين كما حدث مع كثير من الأنبياء والأئمة الذين لم يجدوا القبول المطلوب رغم دعوتهم للحق ولذا قد يكون في الغيبة فرصة للمجتمعات البشرية لتصل إلى مرحلة تستوعب فيها مشروع الإمام المهدي دون أن تواجهه بالرفض كما حدث مع المصلحين السابقين.
كما قد تكون سبب حكمة الغيبة في ضوء السنن الإلهية؛ إنّ الله سبحانه وتعالى يجري الأمور وفق سنن كونية لا تتبدّل ومن هذه السنن أن التغيير لا يحدث فجأة بل عبر مراحل تدريجية فكما لم تتحقق أهداف النبي محمد (صلى الله عليه وآله) دفعة واحدة بل تطلّب الأمر سنوات من الجهاد والتربية فإن ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لا بد أن يسبقه إعداد طويل قد يكون جزءٌ منه هذه الغيبة، قد يكون من الصعب علينا استيعاب الحكمة الكاملة وراء الغيبة لكن الإيمان بالله وعدله وحكمته يجعلنا ندرك أن لكل شيء توقيته المناسب فإذا كان الله قد شاء أن يكون للإمام المهدي غيبة فلا شك أن ذلك يصب في مصلحة المشروع الإلهي الأكبر حتى لو لم ندرك كل أبعاده الآن.
لقد سبقنا الإمامُ الصادقُ (عليهِ السلامُ) إلى القولِ: "إنَّ حديثَنا صعبٌ مستصعبٌ، لا يحتملُهُ إلَّا صدورٌ منيرةٌ، أو قلوبٌ سليمةٌ، أو أخلاقٌ حسنةٌ. إنَّ اللهَ أخذَ من شيعتِنا الميثاقَ (أيِ الولايةَ)، كما أخذَ على بني آدمَ ﴿ألستُ بربِّكم﴾، فمن وفى لنا وفى اللهُ لهُ بالجنةِ، ومن أبغضَنا ولم يؤدِّ إلينا حقَّنا، ففي النارِ خالدًا مخلدًا".(1)( الكافي م 1 ص ٤٠٢ وفي الزام الناصب ص 12 عن أمير المؤمنين بلفظ قريب ومثله في ينابيع المودة 3ص 204.
التسليم بالحكمة والعمل في زمن الغيبة:
إن الحكمة الإلهية وراء غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) قد لا تتضح بالكامل قبل ظهوره ولكن ما يمكن إدراكه هو أن الغيبة ليست سلبية بل هي جزء من مخطط إلهي يُهيّئ العالم لمرحلة العدل الشامل والمطلوب من المؤمنين في هذا الزمن هو التحلي بالصبر والعمل بجدّ من أجل نشر العدل والاستقامة ليكونوا مستعدين لنصرة الإمام حين يحين موعد ظهوره.
وهكذا كما أدرك النبي موسى (عليه السلام) الحكمة من تصرفات الخضر بعد أن أوضحها له قد يدرك الناس الحكمة الكاملة من غيبة الإمام المهدي عند ظهوره حين تنكشف الأمور وتتحقق الوعود الإلهية بملء الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا.
قالَ اللهُ تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ - يَا مُحَمَّدُ - أَحَقٌّ هُوَ؟! قُلْ: إِيْ وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}.سورة يونس.
قيلَ إنَّ هذهِ الآيةَ الكريمةَ تتحدَّثُ أيضًا عنْ آجالِ الأممِ وتكذيبِها الأنبياءَ ونزولِ العذابِ عليها عندَ انغماسِها في الضلالِ، وفيها يعِدُ اللهُ تعالى بخروجِ قائمٍ يُطهِّرُ الأرضَ إذا غَوَتِ الأمةُ الإسلاميَّةُ وحادَتْ عنْ طريقِ الهدايةِ.
في الختام، تبقى غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) موضوعًا يحمل أبعادًا متعددة، تتراوح بين الأسباب الظاهرة والحِكَم الإلهية الخفية. ويظل الانتظار الإيجابي والعمل على تحقيق العدالة والاستقامة من أهم واجبات المؤمنين في هذه الفترة.
_________________
اضافةتعليق
التعليقات