يحدث أحيانا أن يخالف المرء نفسه لدرجة أنه يراها شخص آخر فيخاصمها ويتجرع جلد الذات بكأس مكسور الحواف، وهذا ماحدث معي، حين تراكم الصمت وارتفع كالجدار للحد الذي لم يعد بإمكاني رمي "مرحباً" على نفسي، لدرجة انني كنت يائسة جدا، وكأن ايامي اصبحت ظلاما دامسا يشعرني بحاجة ان اكون وحيدة وكلما خالجني هذا الشعور عرفت انني بحاجة لأرافق كتاب يحتضنني.
وبلا تردد سحبت ذاك الكتاب المركون في زاوية غرفتي الذي شعرت بملل يرافقني حين قرأته لأول مرة ولكنني الان بحاجة لمرافق دون كلام، وحينما بدأت بالقراءة وجدتني اشعر وكأنني اقرأه للمرة الاولى وتلك الكلمات المملة تحولت الى ادراك ان الشخصية في ذاك الكتاب حين قالت: "أتنفس بعمق، وأبتلع لعابي علني أزيح هذا الحجر الصلد الذي يقف بمنتصف حنجرتي لا أشعر بشيء، سواد هذا العالم ...
من أطفأ النور وأصمت الحضور وجلب الهدوء لهذا الضجيج؟
أشعر بصمت في داخلي، صمت مطبق طويل أحاول أن أستفيق منه، أحاول عبثاً أن أخرج من هذه الدائرة الصامتة المرعبة ومن هذا الظلام الدامس."
ماكانت تبالغ في شعورها وانما انا التي قرأت الكلمات بشكل سطحي لمجرد القراءة حتى ضاع المعنى وفقدت شعور ان نلتقي بالكلمات وهي ابلغ، وهنا ادركت مامعنى ان يكبل المرء من عقله.
انظر خارج العقل وداخله
إن ميزة العقل الإنساني في الاستيعاب السريع، والتقاط المعلومات والقناعات الفارقة لا تتحقق عند أول قراءة فحسب ولا عند اول نظرة لكل شيء حوله ، فهناك الكثير من المعرفة تنسحب خارج العقل، لمجرد انقضاء فترة زمنية، خاصة إن كان هذا العقل دائم التعرض للمعرفة وكثير التفكير في شتى مجالات حياته، ففي كل مرة نجرب شيئا وينجح او يفشل نظن انها الطريقة الامثل ونستوعبها بشكل سطحي لدرجة اننا في كثير من الاحيان نعجز عن النظر للشيء ذاته مرة اخرى ونكتفي بالحكم الاول، بينما في الحقيقة في كل مرة نعيد فيها النظر للشيء ذاته سنجد طريقة افضل وربما دربا اسهل وادراكاً اكثر بشكل لم نكن نحن نتوقعه ، حيث يُذكر أن معلما للرياضيات كان يشرح مسألة لطلابه عندما شرح في المرة الأولى، لم يستوعب الطلاب فطلبوا منه إعادة الشرح مرة أخرى، وأيضا لم يستوعبوا مجددا، في المرة الثالثة أستوعب المعلم نقطة لم يكن قد إستوعبها سابقاً، قد تاهت في ظل ظنه انه يجيد الشيء فلا داعي لاعادة النظر بينما تلك الاعادة ربما كانت ستلفت انتباهنا لبعض الأشياء التي كنا نغفل عنها، وتفاصيل صغيرة أهملناها، فإن كل مرة اخرى ترسخ فينا مبادئ الحياة العميقة ودورها وعظمتها وضرورتها.
العمق في ذاكرة مغناطيسية
اما اذا كنت قارئاً فانظر الى الجانب الآخر الذي لا يجب إغفاله، وهو أن خلايا العقل الإنساني تتلف، دون تجدد مع الكِبر في العمر، وينوه "أنتوني ميتيفير" إلى إعادة استقطاب المعرفة للعقل من جديد، بمصطلح "الذاكرة المغناطيسية" بحيث تستطيع جذب المعلومات نحوك مهما خانتك الذاكرة، ففي القراءة الثانية مفتاحا لإتقان مهارات معينة، لم تكن لتتحقق في القراءة الأولى، فكل ما يفقد المرء في أول محاولة، يمكنه تجميعه، والتفاعل معه في الإعادة، ولأن العقل في المرة الأولى يتركز جهده نحو الفهم، وملاحقة الحدث، فتكون المرة الثانية الالتفات إلى ما بين الجمل والسطور، ما يضمن تحقق عمق أكثر في الفهم.
وبكل تأكيد فإن القراءة الثانية لن تستغرق وقتا كما تتطلب الأولى، لأن العقل يكون قد سبق وعالج المعرفة الأولية، وألِفها،
وعن قيمة التكرار، يقول "ماركوس" أكبر ممارسي الفنون القتالية: “لا أخاف من المرء الذي مارس 10000 ركلة مرة واحدة، لكن أخشى من الذي مارس ركلة واحدة 10000 مرة"، الأمر الذي ينطبق تمامًا على قارئ الكتب، فعندما تعود مرة أخرى لكتاب قرأته سابقا تجد أبعادا جديدة لم تستوعبها سابقا أو لم تفهمها بالعمق الذي تكون به، وفي بعض الأحيان تكتشف وكأنك لأول مرة تقرأ هذا الكتاب وكما يقول الكاتب الأرجنتيني آلبرتو مانغويل بطريقة شاعرية " نحن لا نعود أبدا إلى الكتاب نفسه، ولا إلى المقطع نفسه، نظرا لأننا في ظل النور المختلف نتغير، والكتاب يتغير، وتتنور ذاكرتنا ثم تخبو ثم تتنور من جديد".
فاذا كنت من الأشخاص الذين يقرأون بشكل دائم فربما حان الوقت لتتذكر الكتب التي ترغب بقراءتها مجددا وتضعها في قائمة لتعود إليها متى سنحت الفرصة بذلك، أما اذا كنت جديدا في عالم القراءة فلا بد أن تسأل نفسك في كل مرة تنهي بها كتابا جديدا هل تضع هذا الكتاب ضمن الكتب التي ستعود لها مستقبلا، وهو الحال في كل فعل او قول تشعر انه تام لا خطأ فيه راجعه مرة اخرى وانظر له عن قرب هل هو فعل ترغب في تكراره دون تردد مرة اخرى ام انك ستعيد النظر فيه وتتعمق.
اضافةتعليق
التعليقات