إن المستقرئ لمراحل سير المدرسة الصادقية المباركة، يجد بوضوح اجتيازها لكثير من العقبات التي اعترضت ديمومة مسيرتها العلمية، وهدفت إلى تعطيل دورها في المجتمع؛ فقد تغلبت على جميع ذلك وسواه:
أولاً: بعناية الله تعالى وحفظه لهذا الخط الأصيل، المجسد للإسلام بنقائه وسمو أهدافه، الحافظ لجهود النبي الأعظم في استصلاح الناس، وترشيد أفكارهم وعاداتهم، وحثهم علـى التمسك بما لديهم من محاسن ومكارم.
ثانياً: للمنهجية الإنسانية التي اتبعها الإمام الصادق (سلام الله عليه) في تعامله مع قاصديه من رواة أو سائلين؛ فقد اعتنى بالإنسان وانفتح نظرياً وتطبيقياً على ما يدعم وجوده المعرفي، وغذّاه بمـا يلزمه، ولم ينكمش عن أحد أينما كان وأنى كان، بسبب اختلافه معه، بل سادت تعامله روح الإنسانية؛ مما يعني أنه (عليه السلام) يهتم باستصلاح النفوس وتنمية قابلياتها وتزويدها بما تحتاجه من أسباب الرقي والتفاعل مع الأمم الأخرى، التي تلتقي معها في مفردات حياتية كثيرة، لا يمكن تجاوزها أو إلغاؤها، مما يلزم باتباع وسائل حكيمة في التواصل معها بدون الذوبان في مفاهيمها أو قيمها، بل مع الاعتزاز بالانتماء والأصالة، لاسيما وأن للمسلمين ما يغنيهم عن الاستغراق مع غيرهم بما يفقدهم أصالتهم، أو يبعدهم عن أصولهم.
وهذا ما أتاح لكثير التعاطي مع الإمام الصادق (عليه السلام)، والانتظام في مدرسته الفكرية، وإن لم يعتقدوا ببعض أسسها وعقائدها؛ حيث وجدوا فيها ما افتقدوه في غيرها؛ من غزارة العلم والمعرفة والإنصاف في المحاورة، وهي خصائص إنسانية بحتة؛ فجذبتهم تلك الأخلاق والخصال، وشدتهم اليها، ووظفت منهم مخبرين عن فضلها وامتيازها، وقد تجسدت عناية الإمام الصادق (عليه السلام) بتأصيل الجانب الإنساني، في عدة مواقف، لا يغيب عنها عاملا التعليم والتوجيه؛ مما يؤكد حرصه على تماسك أواصر الصلة بينه وبين الإنسان الآخر، واهتمامه بإثرائها وتنميتها وإشاعة أجواء الألفة وشعور الآخر بحاجته المتزايدة لهذا المعلم المفيد وما يلقنه من علم وخبرة؛ فقد عزا عند آخرين ممن تصدوا للرواية والتعليم؛ فكان ذلك خير ما يعلن عن تفرد الإمام الصادق له بالزعامة علماً وعملاً، وإن أدعى غيره ما ادعاه كما كان من أفضل وسائل التعريف الهادئ الهادف الذي لا يثير شبهة أو لغطاً؛ فبالعلم تجتمع الأقطاب المتخالفة وتنسجم الرؤى المتباعدة؛ لقوة سلطانه وتأثيره، بما يبدد من مخاوف الغلبة أو غيرها.
وبهذا يكون الإمام الصادق (عليه السلام) قد حقق أكثر من منجز:
محافظته على الأصالة المعرفية، وعدم فسح المجال لاغتيالها.
تأكيده على أهمية الالتزام بقواعد إثبات المؤهل والكفاءة، عبر الاحتكام للمعايير العلمية، واتباع الآليات المعتمدة، دون اللجوء للانتحال أو التطاول على السابقين؛ لمنافاة ذلك للذوق السليم، وهـو مـا يجب التخلي عنه، والتحلي بالتواضع وعرفان الجميل لأهله؛ إذ لا يلبي القفز على جهود الآخرين طموحاً ولا يحقق مكسباً.
تصديه المباشر لمحاولات التسطيح العلمي، وتحذيره الصريح للمتهاونين في ذلك من سوء ما يلقون في الدنيا والآخرة. وبذلك قد تجلت إنسانية المدرسة الصادقية المباركة؛ حيث:
- لم يهمل الإمام الصادق له أحداً بسبب اختلاف أو انحراف.
- بل أفاض من علومه على الجميع حسب استعدادهم وطاقاتهم الاستيعابية؛ فقد أنتج معرفياً ما يفتح أمام الأمة الآفاق، ويحقق طموحات الوصول، ومن شواهد ذلك ما روي عنه في مجالات متنوعة من تفسير القرآن المجيد، أو العقائد، أو الأخلاق، أو الفقه، أو العلوم والتخصصات الأخرى، مما أثرى الفرد-لو يلتزم بها، وفتح أمامه الآفاق واسعة، ليتطلع من خلالها الى فضاءات معرفية مترامية، يستزيد من خلالها فكراً نقياً، وثقافة أصيلة؛ كونهما صدرا من منبع صاف، غير مشوب بالشوائب؛ ولذلك ما زال متدفقاً بما ينفع الناس؛ قال تعالى: (وَأَما مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)، وكفى بها ضماناً لديمومة العطاء واستمراره بإذن الله تعالى.
- كما أهتم بالتوجيه الى ما فيـه سـلامـة الدنيا والآخرة؛ فوازن بين اتجاهي العلم والعمل، ولم يقتصر على أحدهما، ليؤكد ضرورة المحافظة على تفعيل دورهما، وألا يُهمل الإنسان الدنيا؛ لأنه كما قال الإمام الصادق (عليه السلام): (نِعْمَ الْعَوْنُ الدُّنْيَا عَلَى الآخرة)، كما عليه ألا يعول على ما زرعه مالم يطمئن الى حصاده في الآخرة؛ قال تعالى: (وَالآخِرَةُ خَير وأبقى)، والعاقل لا يفرط بالأبقى من أجل المتحول؛ بما يحقق له التواصل، ويضمن النجاح، الذي هو الهدف من التنمية البشرية، والضامن لديمومتها.
- بل قد هدف الى تعزيز روح العطاء والمثابرة في الفرد، وتشجيعه على التطوير ضمن مقاييس الثوابت العامة بدون التفريط بشيء منها؛ حيث لا يعيق الماضي حراك الحاضر، بل تتسنى الإفادة من ايجابيات كل مرحلة وتوظيفها بما ينفع الإنسان مهما كان، وقد حرص الله شخصياً على اتباع هذا المنهج.
اضافةتعليق
التعليقات