كان الإنسان ولا يزال يخوض غمار الحياة، يهنأ بنعمائها حيناً، ويأسى بضرائها حينا آخر، ويتمحض لأحداثها وإدارتها بقواه كافة، يكتوي بنارها، وينبهر بنورها، فهو بين عاملين متقابلين في إعمارها واستثمارها، يكد ويكدح، يجد ويتطاول، يبني ويشيد، فهو في شغل شاغل من استعمارها، وفي عمل دائب من أجل استمرارها، بيد أن هذا السعي الحثيث قد لا يحضى بطائل إن قَصُر عليه الإنسان في منأى عن الوعي البشري أو في معزل عن التحضر الإنساني الذي يربط حاضره بماضيه المشرق..
وفي هذا المنظور يحتم عليه نفض غبار الاتكال والإستباق نحو التخطيط الأفضل، وهذا كله عن طريق: العلم والعمل بشكل متلازم، العلم بشتی تخصصاته المثمرة، والعمل بكل وسائله المشروعة وهذان من أساسيات مواكبة الحياة الحديثة، لأنهما رمزان من رموز التطور الزماني والمكاني الذي فُرض على الإنسان حديثاً، وبهما تتكامل عملية الوعي البشري التي دأب الإمام على برمجتها للإنسان المتحفز والراغب في التطور.
فقد أكد (عليه السلام) على ضرورة وجود التلازم بين العلم والعمل فلا قيمة لأحدهما إلا بوجود الآخر وأن يكون طلب العلم خالصاً لله تعالى وليس للأغراض الدنيوية الزائلة والاعتبارات الوهمية ومماراة أهل الجهل.
ويوجه الإمام رواد العلم بالإلحاح بالسؤال والاستفهام عن كل ما قد يكون مُبهماً، فعنه (عليه السلام): (العلم خزائن والمفاتيح السؤال، فاسألوا يرحمكم الله، فإنه يؤجر في العلم أربعة: السائل والمتكلم والمستمع والمحب لهم).1
فما هي الروحيّة التي ينبغي للمتعلّم أن يعيشها لغاية العلم في نفسه؟ لأنّ هناك من يطلب العلم من أجل أن يخدم العلم شخصه في معنى الجاه وفي معنى الكسب المادّي، وهناك من يطلب العلم ليستعرض عضلاته العلميّة في مواجهة الناس لتأكيد ذاته، وهناك من يطلب العلم من أجل أن ينير ذاته في معرفة الحقيقة، وأن ينير في العلم مجتمعه في إضاءة قضاياه كلّها بالحقيقة.
ويضع الإمام عمل الإنسان في حياته في المرتبة السامية من الملكات الفعلية، فهو طاعة والعمل قد يكون في العلم، ولا علم لمن لا عمل له، والعمل قد يكون بالجد والاجتهاد ولاستقطاب ضروريات الحياة، وهو الشهامة والمروءة الفذة للخلاص من العبودية واستجداء الآخرين، وكلاهما الطريق إلى الله، فعن الإمام (عليه السلام):
(لا يُقبل عمل إلا بمعرفة، ولا معرفة إلا بعمل، ومن عرف، دلته معرفته على العمل، ومن لا يعرف فلا عمل له) 2.
والإمام يؤكد الشق الأول في المعرفة الإنسانية، ويدعو إلى الشق الثاني من أجل الحياة الحرة الكريمة، فقد كان هو نفسه عاملاً مثابراً، وهو القائل لمن اعترض على عمله في أرض له، وحذره الموت، فأجاب الإمام بصلابته المعهودة: "لو جاءني الموت، وأنا في طاعة من طاعات الله عز وجل أعمل وأكف نفسي وعيالي عنك وعن الناس، وإنما أخاف لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله" 3.
لقد دعا الإمام الباقر إلى العمل الجاد، وكره البطالة، وحمل على التواكل والخذلان، حتى صرح بمقته للعاطلين عن العمل، وضرب لهم مثلا رائعا في ذلك، ودعاهم إلى الانتشار في الأرض، والالتماس من فضل الله، ودعا إلى الحيوية والنشاط، وحارب الضجر والكسل واعتبر الإمام الكسل والتواكل على العمل مضراً بشؤون الدين والدنيا معاً.
لذا يمكن أن نلخص دعوة الإمام للعمل على نحوين:
الأول: العمل بالعلم الذي استوعبه الانسان وتخصص فيه، فهو يطبقهُ على نفسه ليعّد عالماً عاملاً كما هو المفترض.
الثاني: العمل في ميادين الحياة طلباً للعيش الكريم، وهذا لا يكون إلا من حلّه.
إن في الدعوة المزدوجة للعلم والعمل من قبل الإمام، تتجلی النظرة الحضارية، فهما كلٌ لا يتجزأ، وهما كيان لا يتبعض، يتمم أحدهما الآخر، ويسعى أولهما في سبيل من الثاني، إكمالاً لمسيرة الحياة، ففي العلم درء الجهل والأميّة، وتكامل الهيئة الاجتماعية، وفي العمل القضاء على التواكل والانحراف والملل. والبنية الإنسانية في علمها وعملها تخطو نحو الوعي البشري نضجاً وتحرراً واستقامة، وكفى بهذا منهجاً.
اضافةتعليق
التعليقات