إنّ لحظة تعرّف العالم الإسلامي على الغرب في بعده الثقافي والسياسي والتقني الإلكتروني، ودخول الإنترنت، أحدث صدمة لدى الجمهور والنخب والمثقّفين ، مما أدّى إلى ظهور تيارات عدّة في كيفية التعامل مع هذا الوافد الجديد. واخص بالذكر منها التيّار الحداثوي المتأثّر بالغرب، الذي يُعدّ من أهم تلك التيّارات المستحدثة في العالم الإسلامي الحديث والمعاصر.
علماً أنّ أتباع هذا التيّار ليس جميعهم على وتيرة واحدة، ففيهم المؤمن الملتزم بطقوسه الدينيّة والعباديّة، وفيهم الملحد المنفلت من الدين نهائيّاً، غير أنّ هؤلاء جميعاً يشتركون في لزوم التحديث الشامل للوصول إلى التقدّم والرقي، ويختلفون في كيفيّة التعامل مع المبادئ والأخلاق والسلوك التي جاء بها الإسلام ونشأوا عليها، وشكلت فيما بعد التراث الحضاري للمجتمع المسلم، فوقع في ما أسميه صِدام بين الثقافة الأوربية والحداثة والإسلام، أفكار وسلوك مزدوج، عادات وأفكار تتنافى مع تقاليد وسلوك الثقافة العربية الإسلامية وتاريخ العرب. فلاعجب أن يعيش الفرد في مجتمع غريب يشهد حالة من تخبط وازدواجية في الأفكار والعادات والسلوك في المجتمع، والابتعاد عن منهج الشريعة الإسلامية، وبعيدا عن تأريخه أيضاً.
وكل الباحثين والشاهدين على ماآل إليه حال المجتمع العربي يذهب بسببه إلى خانة الجهل، جهل الجيل الجديد لتأريخهُ وأرثهُ الحضاري.
ولا أستثني منهم أحداً حتى بعض المثقفين من يعرف معلومات مشوشة عن الأطر الفكرية الغربية، ويبذل المجهود العالي من أجل أن يستوعب مفاهيمها، وهو في نفس الوقت يمتلك جهلاً تاماً بتراثه الإسلامي الديني وفكره العربي. فالتاريخ مُعلَّم الإنسان وواعظه النّاصح الّذي يحمل إليه الخبرة والتجربة والموعظة الحيّة، وتزداد قيمة هذه التجربة أهمِّيّةً كلّما استطاع الإنسان توظيفها في تصعيد حركة التاريخ وتطوير مسيرة الحياة.
ومن يستنطق سجل التاريخ ويقرأ صفحاته وآثاره، ومن يستقرئ آيات القرآن الكريم، ويتعمّق في فهم وتفسير ومعرفة المجتمع - قبل الإسلام- وتكوينه النفسي والاقتصادي والثقافي والعقائدي والاجتماعي، من خلال أسباب نزول الآيات، التي تحدّث عن أوضاع العرب وطبيعة أصحاب الديانات السماوية والوثنية، وما وصلت إليه من تردٍّ وسقوط.
وسيكتشف الصورة المأساوية والأوضاع المتخلّفة التّي كان يعيشها العرب في الجزيرة. وكيف استطاع الإسلام النهوض بالمجتمع الجاهلي وكيف استطاع الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يؤسس دولة مدنية.
فالجهل والاُمِّيّة والخرافة تسيطر علي الجزيرة العربية وتعبث بالعقول والمعتقدات، كما لم يكن العرب أهل كتاب ولا ديانة سماوية ترفع من مستواهم الفكري، أو تنظِّم حياتهم الاجتماعية. بل كانوا جاهليين يعبدون الأصنام والأوثان والجنّ والنجوم والملائكة، وقليل منهم كانوا على دين إبراهيم أو المسيح (عليه السلام). وكانت هذه الفوضى سببها دخول الأوثان في مكّة بلد التوحيد ومنطلق الإيمان أيّام إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) واللّذين بُعِثا قبل بعثة نبيِّنا محمد (صلى الله عليه وآله) بأربعة آلاف سنة تقريباً.
لقد كان الفقر والجهل والبؤس والمرض، أشباحاً مرعبة تسيطر على قبائل العرب المتناثرة في جزيرتها الموحشة الجرداء. حتى وحدها الرسول (صلى الله عليه وآله) وقطع حبل الجاهلية.
تلك الحياة الاجتماعية المزريّة، الّتي صوّرها لنا القرآن الكريم حين هاجم أصحاب رؤوس المال الجشعين، عندما تحدّث عن حالة البؤس والفقر، التّي دعت بعضهم إلى قتل أولادهم والتخلّص منهم.
وقد صورت إحدى آيات القرآن الكريم هذه الصورة المأساوية المروّعة بنصها: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}. (سورة الأسراء/٣١). فشرحت أبعاد المأساة الاقتصادية والوضع الاجتماعي المتردّي، الّذي كان يعيشه العرب تحت وطأة الجاهلية.
ويتحدّث القرآن في آيات أُخرى عن الخوف والفقر فيذكّر بنعمة الإسلام الّذي أبدلهم بالخوف أمناً حين ثبّت هذه الحقيقة بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}. ( العنكبوت/ ٦٧). أي كانوا يقتلون ويسلبون. وأشدها مظلومية كانت مظلومية المرأة، حيث كانت تعاني حياة البؤس والشقاء، وتُعامل معاملة الحيوانات والمتاع، فلا حقوق ولا كرامة وهي في عُرْف الجاهلي ملك للرّجل، وتورث كما تملك الممتلكات الأُخرى وقد كان الأبناء يرثون زوجات الآباء ويتزوّجونهنّ.
تلك الظاهرة البشعة التّي أشار إليها القرآن الكريم، وحرم الإقدام عليها بقوله: {وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} (النساء /٢٢) بل وكان أحدهم إذا ولدت امرأته بنتاً، سيطر عليه الهمّ والحزن، وشعر بالخوف والعار وسوء السمعة، ولجأ إلى قتلها أو دفنها حيّة أو تقبّلها على مضض واحتقار وكراهية؛ فكانت المرأة ضحية هذه العقلية المتخلفة والأعراف الإجتماعية البالية.
ويسجِّل القرآن تلك المشاهد المأساويّة في تاريخ المرأة المنكودة، ويناصر لها ويدافع عن إنسانيتها المعذّبة، فينادي في مجتمع العرب آنذاك مستنكراً أعرافهم ومواقفهم بقوله: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} . (التكوير/ ٨،٩) بل وينحطّ مستوى المرأة في ذلك المجتمع الجاهلي المتخلّف، فتتحول إلى سلعة للإشباع الجنسي، فينتشر البغاء والإباحيّة، بل وكانت هناك الأحياء الخاصّة بالبغايا اللّواتي يرفعن الأعلام الحمراء، ويحترفن البِغاء، فكانت العرب تسمِّيهنّ بذوات الأعلام، ناهيك عن عرضهن في سوق الجواري، وتسخيرهنّ للعمل في البغاء لكسب المال. أليست هذه الصورة الحيوانية هي أبشع صور الانحطاط لطبيعة المرأة التي هي المحور الرئيسي في نشأة الأسرة.
وجدير بالذكر أنّ كثير من تلك الظواهر الأخلاقية الجاهلية التي ذكرها القرآن وحاربها بنصوصه الشريفة متفشية اليوم في المجتمع الأوربي والأمريكي، وسرت في جسد المجتمعات العربية كالمرض الخبيث، وأوجدت لها مسميات أخرى بغطاء حضاري جاهلي، مما يكشف عن وحدة السلوك والاتّجاه الجاهلي في المجتمعات التي تدعي الحداثة.
عادات وسلوكيات هادمة للمجتمع، بدأ يشعر بمعاناتها حتى الشارع الأوربي. جُملَتْ الأفكار الجاهلية وانتشرت في الشارع تحت مسمى الحضارة والانفتاح والحرية المنفلتة، وإنَّما هي تلك المفاهيم المدسوسة قادت البشرية اليوم إلى أسوء كارثة تهدِّد الحياة بأسرها، وهي كارثة هدم الاُسرة، وتمزيق روابط الحياة الإجتماعية المستقرّة. وهكذا تتجسّد طبيعة ذلك المجتمع الجاهلي المتخلّف في مجتمعنا العربي بكل أبعادها ومرارتها وانحطاطها الأخلاقي والإقتصادي والعقائدي والسياسي والأمني والإجتماعي.
هكذا أصبح حال الأمة بعدما انبهر بالحضارة الزائفة والشعارات الرنانة، ضعاف النفوس والجهال، وصور لهم الأعداء أن سبب ما هم فيه وما حل بهم هو دينهم؛ الذي يجب تنحيته عن الحياة وحصره داخل النفس أو دار العبادة، وما علمّوا (لجهلهم) أن طبيعة الدين الإسلامي الذي ابتعدوا عن حقيقته ليست كغيره من الأديان. فهو دين رحمة وخريطة رسمت للإنسان أبعاده وسيرته على وفق مبادئ وقيم وألزمته بالسير على نهجها إلى آخر الزمان كونه آخر الأديان السماوية.
ويمتاز التاريخ الإسلامي أنه دين حضاري متجدد ولجميع الأجيال لا يقتصر على جيل معين.
هو تاريخ علم وحضارة وهداية، على الرغم من تسلّط الطغاة على رقاب الأمّة فيما بعد. فمع انبثاق فجر هذه الرِّسالة في أرض مكّة المكرّمة أبصرت البشريّة الدّرب، وعرفت معنى الحرِّية والكرامة واحترام العقل، فلا علاج لجسم الأمة السقيم إلا بالرجوع إلى بناء مجتمع صالح، وإزالة العوائق التي يمكن أن تحول بين الناس وبين تلك العقيدة الحية وآثارها، للعيش في ظلالها، وتتسع رقعتها ليشهد التاريخ دولة حديثة متحضرة حدودها أطراف الدنيا، تنعم بنظام حكم مستمد من شريعة ربانية، عدة قرون لا عدة عقود.
اضافةتعليق
التعليقات