اللغة، انتماءٌ وغُربة، احتواءٌ ونَبذ، هي الموسيقى الأولى التي تنسابُ في مسامع مولودٍ جديد قبل أن يفهم مكوناتها، هي أداة الخليقة الأولى، الأمر الأول لنيل الرحمة والرفض الأول لدخول الظُلمات، الطاعة الأولى، والاعتراض الأول، إنها تشييدٌ لحضارات وهدمٌ لأمم، كلمةٌ منها تنسِفُ أقواماً وكلمةٌ تبني أمجاداً عظيمة. هي التي تُخلّد ذكر مجموعات بشرية كاملة وفق ما نطقوا وقالوا، أو تمحي من التاريخ مجاميع أخرى لم يكن لهم حديثٌ يُخلّدهم.
تختلفُ اللغات في ألحانها ولهجاتها وفي أساليب التعبير عنها من شخص لآخر ومن شعب لآخر، لكن الرابط المشترك بين كافة اللغات هو إنها تنقلُ رسالة لسامعها، أياً كانت هذه الرسالة، كلماتٌ تتراصف فتحمِلُ سلاماً أو حرباً، ضغينةً أو حباً، حيث يتخلف أثرها باختلاف محتوى الحديث ومكوناته من الكلمات.
وكما هو الحال في اختلاف اللغات ونغمات نطقها، فإن اللهجات تحظى بذات التنوّع والتباين في مدلولاتها الشعورية، حيث تكون بعض اللهجات باردة وبيضاء، لا تحتضنُ الكلمات المنطوقة بها ولا تنتقي العبارات الأخف هطولاً على النفس، بينما تناقضها لهجات أخرى بكونها احتوائية ودافئة تُدلل سامعها وتُفعم روحه بالهناء، لهجاتٌ يغمسُ أهلها الكلمات بالمحبة والطيب، تخرجُ من القلب وتمنح شعوراً مطمئِناً بالألفةِ والانتماء.
يزيد الأمور تعقيداً أن العاميّة ليست نوعاً واحداً، إنما هي لهجات متعدّدة بتعدّد البلدان العربية، ورغم أن الفصحى هي اللغة الرسمية في كل البلدان العربية (نظرياً)، ينسى الكثيرون أنها ليست اللغة الأولى لأي عربي في يومنا هذا، بل تُعتَبر اللهجة العامّية الخاصّة بكل دولة (أو كلّ منطقة) هي اللغة الأولى التي يكتسبها الطفل في المنزل، قبل أن يتعلّم الفصحى كلغة ثانية إن صح التعبير، ويُلقَّنَها في المدرسة.
ما يثير اهتمام اللسانيين والباحثين في اللغة العربية اليوم هو التنوع الهائل بين اللهجات العامية والتي تُصنَّف تقريباً إلى خمس لهجات رئيسية؛ هي: الشامية، والمصرية، والخليجية، والعراقية، والمغاربية. ومن العوامل التي تحدّد مدى اختلاف لهجة عن أخرى: التركيب النحوي، ومستوى الانتشار في العالم العربي، وعدد المتحدّثين، والتقارب اللغوي مع الفصحى، والبعد الجغرافي لكل بلد عن الآخر.
وللتمييز بين اللغات واللهجات، فاللهجة هي إحدى طرق الاستعمال اللغوي، توجد في بيئة خاصة من بيئات اللغة الواحدة، وهي العادات الكلامية لمجموعة قليلة ضمن مجموعة أكبر من الناس تتكلم لغة واحدة. وهذه الطريقة أو العادة الكلامية تكون صوتية في غالب الأحيان، من ذلك لهجات العرب القديمة مثل (العنعنة)، وهي قلب الهمزة المبدوء بها عين، وكذلك (الكشكشة)، وهي إضافة الشين بعد كاف الخطاب في المؤنث، وكذلك (العجعجة)، وهي جعل الياء المشددة جيمًا، وهذه الظواهر ماتزال متحققة في أغلب اللهجات العربية، في كل مناطق العالم العربي.
ويقوم الاختلاف الصوتي بلعب دور مهم في اختلاف اللهجات وتنوعها. ويتفق أغلب الباحثين اللسانيين والبنيويين على أن اللهجة نظام تواصلي لا يختلف عن اللغة، فاللهجة في الاصطلاح العلمي هي "مجموعة من الصفات اللغوية المنتمية إلى بيئة خاصة، يشترك فيها أفراد البيئة الواحدة"، وبيئة اللهجة جزء من بيئة أوسع وأشمل. وهذه البيئة الشاملة هي بيئة اللغة.
وفي الآونة الأخيرة نلاحظ أنه قد حدث تطور في اللهجات العربية المتنوعة بشكل ملحوظ. وازدادت الاختلافات والفروق عن الفترات السابقة. ويرجع ذلك إلى إدخال الكثير من المصطلحات والكلمات الجديدة والتي تعود إلى أصول أجنبية. وحدث هذا نتيجة لاستخدام الراديو والتلفاز والإنترنت وغيرهم من الوسائل الإلكترونية الحديثة. ونتيجة للاحتلال والاستعمار الذي استمر ومازال متواجد في بعض المناطق العربية. وكان كل ذلك من الأسباب التي ترتب عليها وجود الكثير من اللهجات العربية المتباينة فيما بينها.
اضافةتعليق
التعليقات