انطوى عهد الإمام علي للأشتر على نظرة فلسفية شاملة للحياة والإنسان والتاريخ، واحتوى على العديد من الأفكار والمبادئ والقيم الإنسانية، والمفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية بل أن توجيهاته (القيمية) في هذا العهد الشريف للـ (راعي) في الدولة الإسلامية يمكن أن تكون نظرية إدارية راسخة لا تتعارض مع الأديان والحضارات.
ويُفسر هذا التركيز من أمير المؤمنين في عهد الأشتر ببناء رعاة الدولة وحكامها (ولاتها) قيمياً وأخلاقياً بوصفهم الجهة التي تتولى الإشراف على تنفيذ الدستور الإسلامي (القرآن والسُّنة النبوية) وما يتصل به من قوانين وإجراءات من جانب، وهم الجهة التي ترعى وتدير وتنظم أمر المجتمع بطبقاته وعلاقاته المختلفة من جانب آخر.
وقد حرص الإمام علي على تربية وإعداد الراعي الذي يتصدى لإدارة الشؤون العامة على وفق المعايير التقوائية والأخلاقية، وكان مدار برنامجه هذا بناء علاقات الراعي الأساسية قيمياً، وتنتظم هذه العلاقات في شعب خمسة هي :
1- علاقة الراعي مع الله .
2- علاقة الراعي مع نفسه.
3- علاقة الراعي مع الرعية عامة.
4- علاقة الراعي مع أعوانه وعماله المشتركين معه في إدارة الدولة.
5- علاقة الراعي مع العدو.
وفيما يأتي بيان لهذه المحاور:
المحور الأول
تنظيم علاقة الراعي مع الله
ويكون تنظيمها على أساس أنها علاقة ارتباط وعبادة وطاعة، ومعنى الارتباط بالله أن يجعل الإنسان وجه الله تعالى هدفاً له في كل أعماله وتصرفاته، ويخلص له في كل أعماله، ويجعل مرضاة الله محوراً ثابتاً لكل حياته وتصرفاته، وأن يدخل بشكل كامل في دائرة ولاية الله فلا يكون له رأي أو حكم، أو هوى أو حب، أو بغض، أو عمل أو حركة، أو كلمة، في غير ما يحكم الله تعالى ويريد.
والأداة المفضلة والمؤثرة في تحكيم وتوثيق هذا الارتباط والصلة بين العبد وربه، وربط الإنسان بهذا المحور الرباني في الحياة وإخلاص عمله وجهده لله تعالى هو الذكر، إذ هو استحضار لسلطان الله وحضوره الدائم، وهذا الإحساس والوعي لحضور الله يعمق في النفس حالة المراقبة الدائمة والانتباه الدائم ويحجز الإنسان عن الإنزلاق مع الشهوات والأهواء إلى معصية الله.
المحور الثاني
تنظيم علاقة الراعي مع نفسه
وقد أكد الإمام علي تنظيمها على أساس التقوى التي تشكل رقيباً داخلياً يقوم سلوك الإنسان عن الإفراط في الزيغ والانحراف، وعلى أساس سيطرة العقل على الأهواء والشهوات والعواطف والميول والرغبات، فإذا تمادى الإنسان في اتباع هواه وغرائزه ورغباته الجامحة، وأطلق لنفسه عنان الشهوات، بعيداً عن التعقل والتقوى، فقد يصل الأمر به إلى الخروج عن دائرة الإيمان، إن الحاكم محكوم بشهواته، وجمحات نفسه، وعليه بحكم المسؤولية الكبيرة التي يقوم بها أن يتجاوز شهواته وعواطفه وأن يتعالى على نفسه ليستطيع أن يمارس مهمة الحكم بجدارة.
المحور الثالث
تنظيم وبناء علاقة الراعي مع الرعية
ترتكز فلسفة الحكم في الإسلام على معرفة التركيبة الاجتماعية لأفراد المجتمع وتطلعات الرعية على جميع الأصعدة بغية تقليص المسافة بين الراعي والرعية، إذ لا شك في أن استحضار المعية الإلهية تبرز جلياً من خلال القرب المادي والمعنوي بين الحاكم والمحكوم، وتكون ملاكاً لصلاح أمرهما، وبالعكس كلما كبرت الهوة بينهما دلّ ذلك على فتور استحضار تلك المعية التي تكون العامل الأساس في ظهور الفساد بجميع مستوياته.
فالدولة عند الإمام علي كيان تدبيري عام تنبثق فيه المسؤولية من الإرادة العامة للمجتمع (الرعية)، وتحدّد وظائف الدولة وسلطاتها التي يتولاها المسؤول العام (الراعي) طبقاً لمبادئ دستور الشريعة، وتكون العلائق في ذلك تضامنية، وقد جسد الإمام في الفترة التي ولى فيها المسؤولية العامة في الدولة، الدور الاجتماعي العام في معادلة تكافأت فيها الحقوق والواجبات ما بين الدولة ومواطنيها، وتجسدت فيها آفاق ومعالم الفكر والنشاط التدبيري وقد عبر الإمام عن ذلك الدور المسؤول للعلاقة ما بين الدولة ومواطنيها في تطبيق القوانين واستقرار الدولة بقوله:
(فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ وأَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ واعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَجَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الأَعْدَاءِ).
ويبين النص أن آثار هذه العلاقة ونواتجها ينسجمان بدقة مع طبيعتها واتجاهها، كما يدل عليه التفصيل الآتية وهي الآثار :
1_ أثر قيمي: (عزّ الحق بينهم).
2_ أثر ديني: (وقامت مناهج الدين).
3_ أثر سياسي - أخلاقي: (واعتدلت معالم العدل).
4_ أثر اجتماعي: (وجرت على اذلالها السنن).
أما النواتج:
۱ - ناتج اجتماعي - تاريخي : (فصلح بذلك الزمان).
٢ - ناتج سياسي - نظمي: (وطمع في بقاء الدولة).
٣- ناتج أمني -عسكري: (ويئست مطامع الأعداء).
وبذلك يجعل الإمام علي التوازن في العلاقة بين الحاكم والمحكوم الأساس الذي يتكئ عليه الكيان الاجتماعي وبالشكل الذي يضمن علاقة عادلة بين الطرفين.
والرعية عند الإمام علي جزء مكمل للراعي، فلم نجد استعمالاً للكلمة منسلخة عن الراعي، إذ لا رعية بلا راع، كما وأن لا قدرة للراعي أن يعمل شيئاً بدون الرعية، وهناك حقوق متبادلة بينهما، وتشكل هذه الحقوق نظام العلاقة أما حين لا تبذل الرعية للوالي طاعتها ولا تمحضه نصيحتها، ولا تلبي دعوته إذا دعا، أو حين تفعل ذلك كله ولكن الوالي يستغله في رعاية مصالح نفسه، ويهمل مصالح رعيته فإن ذلك مؤذن بشيوع الظلم وسيطرة الظلمة وفساد الدولة.
المحور الرابع
تنظيم علاقة الراعي مع أعوانه
وعماله المشتركين معه في إدارة الدولة
واعتمد الإمام علي في ذلك على عدد من الخطوات:
أ. الاختيار الدقيق لكبار موظفي الدولة بالذات:
فقد أولى الإمام علي مسألة اختيار الأشخاص الذين تناط بهم المراكز القيادية في الحكم اهتماماً بالغاً، فرأى ضرورة أن يجري انتقائهم على أساس مواصفات دقيقة يرتبط بعضها بالجانب الأخلاقي كالتقوى والورع والأمانة، ويختص بعضها الآخر بالجانب العملي كالجدارة والكفاءة ونهى أن يكون الاختيار على وفق المقياس الشخصي الذي يتحكم فيه الحدس والظن، وإنما على وفق الاختبار بالتجربة.
المحور الخامس
تنظيم علاقة الراعي مع العدو
إن العلاقة السياسية في فكر الإمام علي (عليه السلام) التي ينبغي أن تتبناها الدولة الإسلامية هي علاقة منتظمة قائمة على مبادئ، وتتحكم بها ضوابط وقواعد، ولا يمكن للحاكم الانفلات منها متى شاء نتيجة رغبة قصيرة العمر أو مصلحة مؤقتة.
ولذلك وجه الإمام علي (عليه السلام) الأشتر إلى الالتزام بالعقود والعهود التي يبرمها مع العدو، والتي يجب أن تكون مرعية على كل حال، بلا غدر أو إفساد أو خيانة.
إن إدارة العهود والمواثيق التي أشار إليها الإمام علي يعبر بوضوح على أن الفكر الإداري الإسلامي يضع على الصعيد الإسلامي قيماً ودلالات تتسم بروح الصدق وعدم خيانة الموقف ابتغاء لرضا الله سبحانه وتعالى، وهذه الحقائق قد تغرب عن بال العديد ممن يرون أن السياسة تتسم بالتضليل والمخادعة وعدم رعاية الذمم، بل أن العكس هو الصحيح إذ أن الفكر السياسي السديد ما اتسم بعمق الوفاء بالعهود والذمم والمواثيق وعدم انتهاج سبل الخيانة والتدليس والمخادعة، مهما كانت النتائج، فالقرارات المبنية على المبادئ الحميدة والأسس النبيلة ترتقي باستراتيجياتها وتحقيق أهدافها المرسومة.
فالأسس لا تتقاطع مع البناء الفعلي الاستراتيجي، وهكذا هو الإسلام الرافض لكل انحراف في مفاصل الحياة، بما فيه الإنسان، فما كان مبني على الصحيح نتائجه محمودة، وما كان مبني على الخطأ نتائجه العاجلة أو الآجلة مدمرة للذات والمحيط الخارجي.
اضافةتعليق
التعليقات