اجتمعت في عصر عاشوراء عقيدةٌ صادقة، وإيمانٌ راسخ، ويقين ثابت، تمثلت في رجالٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، عشقوا الموت في حب الحسين.
فوارسٌ ضراغمة جسورة، اِستأنست بِالمنيَّة دون الحسين صلوات الله وسلامه عليه، كاِستئناس الراضعِ بِمحالِب أمه، لم ولن تُبَالي بالموت وإن نُشرت بِالمَناشِير، فنالوا بوفائهم في كل زمن ومكان، وسام أفضل وأوفى وأخير صحبة مع الحسين، الذي شَهِد فيهم وهو إمام زمانهم المعصوم قائلًا: (لَا أعْلَمُ أصحابًا أَوَفَى وَ لَا خَيْرًا مِنْ أَصْحَابِيِّ)1. وفازوا بقصورٍ وخيرات حسان، وحورٍ مَستوراتٍ في الخيام، ينادون العَجل العَجل .
فَأين تلك الأنجم الزاهرة مِن تلك العِصابة الملعونة التي تَهافتت بشدة وحماس وتنافس على قَتل الحسين وقتل أنصاره، بعد أن أذاقتهما الْمَوت *عنوة بسهامها ومن تحت حوافر خيولها.
برز من بين تلك النجوم المضيئة، وفي صورة خالدة منقطعة النَّظير، ليثٌ، صدوقٌ، وفيٌ، ثقةٌ، بطلٌ، باسلٌ، شجاعٌ، أقسم أن لا يَموت إلّا حرا، سجلها سفير الحسين "مسلم بن عقيل" صلوات الله وسلامه عليهما في الكوفة ببطولاته وتضحياته المقدامة ودمه الطاهر الزكي، وما قاله ابن عمه سيد الشهداء عنه (أنا باعثٌ إليكم بأخي وابن عمي، وثقتي من أهلي)2 ما هو إلَّا ترجمة مسهبة لشخصه الكريم ولسيرته المباركة .
تألقت في سيرته الشريفة صورة اِمرأة مؤمنة، جليلة، موالية، اِسمها "طوعة" ناصرت "مسلم بن عقيل" وآزرته بما لديها من مكنة، مودة في أهل البيت، في الوقت الذي تفرق عنه وعجز أكثر الرجال في الكوفة. وبتلك البطولة والشهامة النادرة، أصبح اسمها يزامل اسم بطلة الطفوف
"زينب الكبرى" صلوات الله وسلامه عليهما في كل عام في عاشوراء، وصَدق مَن قال "إِنَّ لِلْحِسَّيْنِ فِي بَوَاطِنِ الْمُؤْمِنِينَ مَعْرفة مَكْتُومَةَ"،3 وفَازَ وَنَجَا مَنْ رَكب في سَفِينَتِهِ.
كما جاء في الأخبار عنه، أنه كان ضرغامًا، أبيًا ،لا يهاب الموت، مبالغًا في النصيحة والإقدام، كأبي الفضل العباس، تخلى عنه أكثر من ثمانية عشر ألف شخص من الكوفة وتفرقوا عنه، بعد أن عاهدوه بنصرة الحسين صلوات الله عليه، لكنه مع هذا الظرف العصيب بقي مُقدامًا مُنْتصرًا قويا مستميتًا في دفاعه ونصرته عن مولاه وسيده، وعن مشروعه الميمون الذي أبى إلّا أن يحمله بهمة وسداد .
وقف "مسلم بن عقيل" صلوات الله وسلامه عليه بشموخ وعزة أمام "ابن زياد" أشد عتاة بني أمية في قصره بالكوفة، فاضحًا خبثه وخبث أصله ونسبه أمام الملأ، دون أن يخشاه، قائلًا له: (أما والله يا بن زياد! لو كنت من قريش أو كان بيني وبينك رَحِم أو قَرَابَة لما قتلتني ولكنك ابن أبيك..)4.
كما ذُكرت في سيرته الشريفة أن أكثر من 300 فارس من جيوش "عبيد الله بن زياد" ضعفت أمامه وأمام سيفه "البتار"، فقد كان سيفًا من سيوف محمد بن عبدالله يشتد في القتال، كشدة "ذي الفقار" "داحي بَاب خيبر" ،في كفه حُسام يقطر منه الموت الزُّؤَامُ* ،يأخذ ببسالته الرجل من محزمه ويرمي به عاليًا في الهواء. ولما (بلغ ذلك ابن زياد، أرسل إلى محمد بن الأشعث يقول له: بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به، فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة، فكيف إذا أرسلناك إلى غيره؟ فأرسل إليه ابن الأشعث: أيها الأمير أتظن أنك بعثتني إلى بقال من بقالي الكوفة، أو إلى جرمقاني من جرامقة الحيرة؟ أو لم تعلم أيها الأمير أنك بعثتني إلى أسد ضرغام، وسيف حسام، في كف بطل همام، من آل خير الأنام، فأرسل إليه ابن زياد أعطه الأمان فإنك لا تقدر عليه إلّا به) 5.
فأحاطوه من كل ناحية بجيوشهم المتغطرسة، وضربوا عنقه، وألحقوا رأسه بجسده الشريف في حفيرة من أعلى قصر الإمارة، وأُهدي رأسه مع رأس ناصره المحب للحسين "هانئ بن عروة" * إلى طاغية الشام اللعين.
فمات بأبي وأمي "ابن عقيل" عطشانًا شهيدًا محتسبًا أجره على الله تعالى {..فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا..}6.
-----------------
اضافةتعليق
التعليقات