للغدير قبة بيضاء، تنثر لآلئ يضاهي بريقها التابع واللاحق، إنتاجها الشهد وروعة جملتها حي على العهد.
ليوم الغدير وجيف لقلب كل محب، ورجيف دق عنق المضل المنافق المخادع.. كل سنة وعيدك يا غدير بخير، وكل الأعياد لك ساجدة.. من تلك القبضة، انفجرت مراجل ومعاهد كان في اتحاد الكف وراحة يد العقيدة ينبوع أفكار و ألف قصة من علم ومعرفة كان لها جذور من السماء تبارك لها يومها، أن يا أيها الناس..
(أن عليا ولي الله، اللهم والي من والاه وعادي من عاداه، وانصر من نصره و أخذل من خذله…).
إنما البيعة لعلي بن أبي طالب، كتاب مختوم من الجنة قد شهده كل الملائكة والنبيين.. ولم يرفضه ذي نطفة سليم.
قال الرضا (عليه السلام): (حدثني أبي، عن أبيه عليهما السلام قال: إن يوم الغدير في السماء أشهر منه في الأرض، أن لله عز وجل في الفردوس الأعلى قصرا، لبنة من ذهب ولبنة من فضة، فيه مائة ألف قبة من ياقوته حمراء ومائة ألف خيمة من ياقوت أخضر، ترابه المسك والعنبر فيه أربعة أنهار: نهر من خمر ونهر من ماء ونهر من لبن ونهر من عسل، حواليه أشجار جميع الفواكه، عليه طيور أبدانها من لؤلؤ وأجنحتها من ياقوت تصوت بألوان الأصوات.. فإذا كان يوم الغدير ورد إلى ذلك القصر أهل السماوات يسبحون الله ويقدسونه ويهللونه، فتطاير تلك الطيور فتقع في ذلك الماء وتتمرغ على ذلك المسلك والعنبر، فإذا اجتمعت الملائكة طارت تلك الطيور فتنفض ذلك، وإنهم في ذلك اليوم ليتهادون نثار فاطمة عليها السلام فإذا كان آخر اليوم نودوا: انصرفوا إلى مراتبكم فقد أمنتم من الخطأ والزلل إلى قابل في مثل هذا اليوم تكرمة لمحمد وعلي عليه السلام) ١.
ماقام حديث ولا جثت رواية، إلا وللولاية فيها مقصد، واعتراف الحرف بعقيدة تحوم حولها بيعة علي بن ابي طالب …
فأساس الدين هي الولاية، وقالب طرحها العقيدة والمبدأ، وعمق هدفها، إذعان النفس لحق علي وآل علي.
عن الإمام الرضا (عليه السلام):
(إذا كان يوم القيامة زفت أربعة أيام إلى الله كما تزف العروس إلى خدرها. قيل: ما هذه الأيام ؟ قال: يوم الأضحى، ويوم الفطر، ويوم الجمعة، ويوم الغدير، وإن يوم الغدير بين الأضحى والفطر والجمعة كالقمر بين الكواكب…..)٢.
للتعبير سوط مغيب، قابل للرفض والقبول، وحيث أن الكلمة مسؤولة عن نفسها، أن ألقت بثقلها معارض التلقين، إذن يتعين على الجميع أن يذعن أولا، لراحلة الطرح، وتشرف روحه ولو عفويا لفهم ساعة الحدث، لتكسب خطابا تشتاق حروفه إلى الثقة، والمداراة..
الكتاب مبوب وبصورة لا يقبل نقاش الساذج أبدا وحيث الوجد أخذ منه مفصلا واسعا في ترتيب الحقيقة وأدلة المراهنة.
وكما يعتقد المؤمن الحذق أن التعرف على حقيقة الدليل، وإشارة الحق فيه، أن هي إلا فريضة أن تطاع وبقوة يقين وبصيرة لمعرفة أهله وخوابي التفاهم الذي يدور مدار الرحى ومركز الاختيار له..
يقول علماء النفس؛ إن النصيحة التي تكره سماعها هي النصيحة التي تحتاجها فعلاً في حياتك.
مقياس هذه الفكرة تعتمد حتما على متانة فقراتها، وصداها بين أتربة الزمن المتحول..
لأن البعض، يحبذ أن اتباع المراد خوضه على قدر فهمه ومستواه وتطلعه.. لذا، أدرك علماء النفس هذا المقدار من التتبع على أنه ناتج قدرة الإنسان وتعقله، لأنه مجبول على ما تعلم وأدرك، فإن قبل بها أقبل عليها، وان أدبر تخلف عنها.. فأما عذب ماء سارع شرابه، أو ملح أجاج، لا يستوون مثلا ….
هذه النصيحة، نقطة نظام له أن أيقن مفادها فالنجاة له حتما. الدين، نصيحة ربما يكره البعض الانصات لعمق مفرداته، لكنه الطريق الأنجع لحل جملة مشاكله وتقويم ذاته..
وعلى ذلك، يكرر الزمن احتمالاته بصورة أخرى أن جعل أمر الخلق جولة ضرورية وجادة بيد أهل طاعته، فكما هي الرسالة عبء لا يفهمه إلا من كان بحجمها، إذن كانت الوصاية أن تتقلب حوادثها على قلب يتحمل تلك الشظايا وإن داهمته غيلة..
فقلب علي بن ابي طالب محطة التقاء النور وحديث الطهر المسدد فيضا إلهيا لبيت العترة.
كتاب البيعة لأمير المؤمنين، مدرسة تغرق الأفكار فيها منعمة بالنور، للعالم أجمع، فالهدية لها اعتبار قيمتها في نفوس من تحبها وتقدرها..
فمحفل الغدير أعظم هدية وأجل ذكرا لأهل الأرض خاصة، وأهل السماء..
تميز الغدير بالشمولية والعقدية، وجمع مفردات الدين في كف المبايعة، وقاموس أبعاده له صداه ومداه على طول الخليقة ووجودها..
جمع الغدير الشرع والغيب والرؤى في كفة واحدة، جمع فصول التوحيد، وخلود النبوة، وآلية التشريع، وحدود المبدأ والعقيدة واعطاها صبغة تختلف اعجازيا عن باقي الأعياد والأيام..
فكان كف علي وصدره، محور التقاء الغيب مع الطبع الإنساني، وآرائه المتعددة..
هو يوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا. هذا هو الشعار الشيعي المذهبي أن يبدأ بولاية علي وينتهي به.
لأن مجمل الأفكار ومقال احترافها، أن تفرض نفسها، على البيت الشعبي المتمثل بالفرد من جانب، ودخول الهدف معمعة النهوض والرقي والإيمان به جانبا آخرا..
من هنا نعرف خطورة الخطوة، وقوة محتواها، وشمولية حضارتها، وعافية أفكارها، وتطابق غاياتها والتي تجتمع كلها بطريق وبشخص واحد
تجمعهم الهمة والعزيمة…
سلسلة لا تنفك عن العنوان المطلوب، وولاية لا تخالف التنفيذ لأمر الوصي.. هنا نبارك الفرحة بيتها الجديد ولعمري هي فرحة يستطاب لها الفؤاد وينبض القلب ودا لأنها توجت النفس بالطمأنينة والنجاة من كل وابل شطط.
في حج الغدير، عيد مفروض ومفترض على من خطى للمبايعة، أن تحبو الدمعة إلى قدم الثبات لتقبل أعتاب صلاته، وتتفاخر ببيعته، ويبتسم وجه يتيم الفكرة، ويتكلم قلبه، ويكتب نبضه أن ساعة النجاة قد رست فمولود الكعبة توج وفي كفه غدير قد ولد.
عيد الغدير، مقدمة كل الأعياد، وسبحان الله أن جعل بابه مفتوحا لكل وقت وزمان وبأي واجهة كانت، فثم وجه الله أن يعبد حيث مدينة علي.
عيد له منطق خاص وثوب ولون دون غيره من الأعياد، ومن يعيش الشارع الشيعي ويندمج مع آثاره يفهم جيدا ما أقول، فرصة اندمجت مع خبرة، جمعت النبوة والولاية، في قوة يد.
(فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوصى أمير المؤمنين عليه السلام أن يتخذ ذلك اليوم عيدا، وكذلك كانت الأنبياء عليهم السلام: تفعل؛ كانوا يوصون أوصياءهم بذلك فيتخذونه عيدا) ٣.
نعم تهادت أسرار، والتف عنق التسليم ليصافح الغيب لتعترف النبوة، أن لا عيد يكتمل، ولا جرح يندمل ولا أمنية محققة، إلا من اعتنق بيت الولاية، ولبس ثوبها، واتزر حب وليها والكتاب مصداق الهوية، والرواية فيض أنوار تتسع قنواتها على مد بصر لمن ورد وسجد..
مفهوم الولاية مقرون بالمعرفة الوحدانية، تؤمن بأن المنهاج واحد، والكلمة فرع منها، على أن تكون حق مقرر في ذمة الوجود..
الأسلوب العقائدي الولائي يتميز بالنوعية، فضلا عن الطرح والتكليف، لذا تتعدد أوجه الخطاب ومدى قوته، وسماكة أرضيته الصلدة.. والتي لا تقبل التغيير أو البتر، أو أي تشكيك..
مازال الدليل قائم، ووجه البحث مدعوم بالقوة..
لذا عدت الثوابت في حقل الالتزام، من أمهات الانطلاق لكل تبليغ كلمة، أو كتابة، أو ارتقاء أي منبر يتكلم عن الحق والولاية …
أعطت صبغة خاصة، لعمامة التهذيب، بات حرفها ممزوجا باللطف، وإشارة خطابها صرح عتيد
فلا منهاج يفرض نفسه ويلقى رواجا فكريا إلا وقد ترك أثرا في نفوس مستمعيه وكان لولاية علي بن ابي طالب فيه مطلب..
النجاح في الحياة، أساسه جملة حق خالية من كل تراكم ممزوج بشبهة..
وهذا لا يكون إلا باتباع منهاج ثابت، وهو بالتدريج مركز كل الفلاح..
إن الله حفظ اعتبار الأنبياء والرسل والأولياء والأوصياء في هذا اليوم أن جعله مرهون ولايتهم لعلي وأولاده وبذلك تتم نعمة وجودهم وعبادتهم مختومة بهذا اليوم، لذلك اشتمل الغدير بكل الصفات وأتممها بتصديق النبي محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
روى السيد ابن طاووس: باسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في خطبة يوم الغدير: إن هذا يوم عظيم الشأن، فيه وقع الفرج، ورفع الدرج، ووضحت الحجج، وهو يوم الايضاح والافصاح عن المقام الصراح، ويوم العهد المعهود، ويوم الشاهد والمشهود، ويوم تبيان العقود عن النفاق والجحود، ويوم البيان عن حقائق الايمان، ويوم دحر الشيطان، ويوم البرهان، هذا يوم الفصل الذي كنتم توعدون هذا يوم الملأ الأعلى الذي أنتم عنده معرضون، هذا يوم الارشاد، ويوم محنة العباد، ويوم الدليل على الرّواد، وهذا يوم إبداء الصدور ومضمرات الاُمور، هذا يوم النصوص على أهل الخصوص، هذا يوم شيث، هذا يوم إدريس، هذا يوم يوشع، هذا يوم شمعون، هذا يوم الأمن المأمون، هذا يوم إظهار المصون المكنون، هذا يوم بلوى السرائر…) ٤.
فـ يد النبوة ألهمت غيبا، حين بايعت عليا يوم الغدير، إنما هو قرار وفرض إلهي ووحي موسوم بخاتم التصديق للوصي ليكمل مسافة الطريق، حتى ظهور الغائب الحاضر، وساحة التقديس..
فبيعة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه)، والايمان بغيبته، والدعاء له بالتعجيل، إنما هي من ذاك الغدير وحلقة التواصل بين البداية والنهاية، ولاية ألزمت على نفسها السجود وقبول الوعد والوعيد، هو المشوار البعيد وهو العيد الذي ابتدأ بعلي بن أبي طالب ويختتم بالحجة الرقيب.
.................................
اضافةتعليق
التعليقات