تنتشر في المجتمع العراقي كلمة "خطية"، وقد تكون أنت التالي الذي سيتلطخ بهذه الكلمة، خطية مفردة تسبغ بكرم في الاجتماعات العائلية ولقاءات الأصدقاء ومحيط العمل على الأشخاص الذين لم يحالفهم الحظ لحضور ذلك المجلس، تطفح عينا قائلها ويتموج صوته بالطيبة والخير وتخرج مع أنفاسه الرطبة كلمة "خطية".
حين نرى الأمر من مسافة كافية يمكننا أن نرى الحقيقة "خطية" كلمة تتشح بالخير والطيبة، غير أن لا خير فيها ولا طيبة، ففي اللحظة التي ينطق أحدهم بهذه المفردة فكأنه يعترف ضمنياً إن حياته أفضل من حياة الشخص "الخطية"، وخياراته أكثر حكمة، وحظوظه أفضل وأجزل!
يمكننا القول إنها تمثل شكلاً خجولاً وأخلاقياً ومقبولاً من التعالي والشفقة المرضية.
الأجيال التي نشأت في الحقب السابقة في العراق، لا تعترف بالتنوع، ولا تؤمن بتعدد الخيارات التي يمكن لجميعها أن تكون صحيحة لبعض الأشخاص وفي أوقات معينة، وهذا ما ولد لدى الإنسان العراقي حالة من القطبية، إما أبيض أو أسود، جيد أم سيئ، أعرف كل شيء أو لا أعرف أي شيء البتة، وطبيعة الإنسان جشعة - يمكننا القول إنها طموحة إن أردنا تجميل الصورة - ولا يحب أن يكون على الجانب الخاسر لذا سيختار الجانب الصائب على الدوام، وسيعامل الآخرين بمبدأ قراراتي سديدة وصحيحة وأنت ضائع متخبط، إن كنت مثلي ستكون ناجحاً فأنا على جانب الناجحين، وإن اختلفت معي فجهودك المحدودة لن تنقلك إلى مستواي ما حييت إلا إن استمعت إلى نصائحي الذهبية وسرت على خطاي العظيمة.
هؤلاء الأشخاص يعتقدون أن حياتهم المثالية، وهي معيار للقياس، وهذا يمنحهم الحق في الحكم على حياة الآخرين.
كذلك يقع هؤلاء الأشخاص تحت وطأة مشاعر النقص بالإضافة إلى الضغط الاجتماعي السائد للدفع نحو الكمال، فهم يفقدون شيئاً ما بشدة سواء علموا بذلك أو لم يعلموا، مشاعر النقص تضرب أوتار أرواحهم وتوجعهم، لا يرغبون بالاعتراف بذلك، لا يريدون تحمل وجع النقص وإذلال الإعلان عنه لذا يميلون لتحويل النقص إلى استعلاء وفوقية، يبحثون عن عيوب الآخرين ليتشتت تركيزهم عن آلام ذواتهم.
كذلك يتسم هؤلاء الأشخاص الذين يكسون الغادي والرائح بكلمة "خطية" بالكسل الشنيع، فهم ليسوا راغبين بتغيير سلوكياتهم أو طرق اتخاذهم للقرار أو حتى طرق تفكيرهم لكنهم يحلمون بنتائج مختلفة، وبما إن لا نتائج مختلفة ستتولد من نفس طريقة العيش، فالبحث عن عيوب من هم أفضل حالاً يساعد على تخفيف قلقهم وإشعارهم بالاطمئنان الزائف الذي يخبرهم إن اللامعين لديهم جوانب تقصير عميق، وهم بغيضون ومقصرون، ويمتلكون حياةً يرثى لها وإن بدت رائعة من الخارج، لذا ليس عليهم أن يبذلوا مزيداً من الجهود لتحسين حيواتهم والوصول لمستوى الأشخاص اللامعين، فحياتهم أفضل، ومزيد من النجاح والتفوق قد يأتي بالعلل والمصائب والضياع.
وهكذا تُغلَق بإحكام فوهات الاختلال الداخلي -الذي لا يجب أن تفوح رائحته النفاذة- بسدادة "خطية" ذات مظهر سامٍ ورؤوف، وتمنح كل تلك الاضطرابات صورة لائقة لتطفو على السطح.
عندما نصف أحدهم بأنه "خطية" نحن نتغافل عن أن خياراتنا الصغيرة قبل الكبيرة قمنا بها بإرشاد الله ومعونته وهو من يبارك في نتائجها، كما أننا لا نعترف أن الحياة متعددة النهج، وأساليب عيشها كثيرة، الحياة ليست مضماراً للسباق، وما هو مناسب لرحلتنا في الحياة لا يناسب رحلات الآخرين.
لذا في المرة القادمة وقبل أن نقول "خطية" علينا أن نتساءل هل نعرف كل شيء عن هذا الشخص؟ هل الشخص يطابق سماتنا لتكون حياتنا العظيمة مناسبة له؟ هل ما نعرفه عن الحياة هو الأسلوب الأكثر سلامة وذكاء وإبداع للعيش؟
اضافةتعليق
التعليقات