• الرئيسية
  • كل المواضيع
  • الاتصال بنا
facebook twitter instagram telegram
بشرى حياة
☰
  • اسلاميات
  • حقوق
  • علاقات زوجية
  • تطوير
  • ثقافة
  • اعلام
  • منوعات
  • صحة وعلوم
  • تربية
  • خواطر

ضجيج الكرى

زينب الأسدي / الثلاثاء 08 آذار 2022 / ثقافة / 1717
شارك الموضوع :

فتَحَتْ أمّي الباب الحديديّ القصير متذمّرة قد عقدت حاجبيها باعتراض بادٍ على محيّاها السومريّ المليح

كان النهر ممتدًّا عابرًا يتلوّى كحيّة أفعوانيّة استطاعت أن تُحصي جحافل البؤس والألم المحتشدة في بيوت المدينة، ما يزال الغوص في عمقه يغسل عن وجودي تراكمات الزمن الموحش ويُثير في كوامني شغف الحركةِ بانسيابيّة سمكة شبّوط محترفة، كثيرة هي اللحظاتُ التي باح فيها عن آلامه الدفينة في كلّ قطرة سَئِمَتْ تكرار التبخّر والفناء، كنتُ أهمسُ في أذنه:

  - لكنّكَ ماضٍ أيّها العنيدُ لا تكترثُ لشيءٍ، فيقول:

  -لا تغترّ بذلك يا فتى، إنّه امتداد الضياع!

  سألتُه ذات مساء هل جرّبتَ لوعة الاشتياق يومًا؟ فثار بعنف وركلني بموجة كدتُ أغرقُ على أثرها.

 دخلتُ إلى المنزل قرب المساء وقد تبخّرت آخر قطرات الماء العالقة بملابسي لتمدّني بالرشفات المناسبة لقمع عطش الحياة.

فتَحَتْ أمّي الباب الحديديّ القصير متذمّرة قد عقدت حاجبيها باعتراض بادٍ على محيّاها السومريّ المليح قائلةً:

- لَم يعدْ نهر الحسينيّة كالسابق، سَرَت فيه اللوثة ككلّ الأشياء الثمينة، ألا تشبع من حكايات هذا النهر الهرم وتتحوّل عنه إلى أحواض السباحة المغناج المنتشرة مؤخّرًا في كلّ مكان؟!

ثمّ حَمَلت قارورة الماء الكبيرة وأفرَغَت آخر قطراتِها في إناء عصير الزبيب، تناهى إلى السمع صوت بائع الماء، فاستأنفت باستعجال:

- اذهب واشترِ الماء.. لا يعرفُ هذا البائع الصبر قليلًا، يتعدّانا ويذهبُ كلّما مرّ من هنا.

جريتُ خلف البائع فملأتُها وكدتُ أدخُلُ المنزل حتّى وصل ناجي بوجه النكد الذي تهرول فيه الشياطين بسبب وبدون سبب، قَفَزَتْ موجة من الاستياء إلى حنجرتي عندما لاحني بكتفه الضخم وهو يتجاوزُني داخلًا البيت،  نزع حذاءه فتصاعدت رائحة الأبخرة النتنة من جوربه المخروم في إبهامه الأيمن.

جلسنا على المائدة التي أخذ يلتهمُ ما فيها بنهم فيل استوائي ضخم حتى أتى على آخر لقمة من قطعة اللحم الفريدة في الصحن، سقَطَتْ قطرة من المرق على دشداشته فزادتها اتّساخًا، حاول مسحها بمنديل ولكن اتّسعت رقعتها أكثر، قال بصوت أجشّ محدّقًا فيّ ببلاهة معهودة:

- ستأتي من الغد إلى العمل لمساعدتي، ماذا جنى المتعلّمون من دراستهم؟! ثمّ إنّكَ لو عشتَ أحمق في هذا البلد فسيسهل عليكَ هضم الأمور ولن تشعر بالأسى، لقد كبرتَ يا ولد أنتَ في الثالثة عشرة من العمر! قال ذلك وهو يكرع ما في الكأس من بقايا العصير.

 حدجتْ أمّي زوجها بعصبيّة وقالت: هل سيقوى هذا الصبيّ الهزيل على نقل الطابوق في المعمل، أجُننتَ؟!

لوّح الأخير بيديه مثلما لو كان ينشّ ذبابة عن وجهه!

عندما تعالت مناوشاتُهم، اتّخذتُ جانبًا قصيًّا من الغرفة تائهًا في كهف من الأفكار المظلمة. لا أعرف لماذا تذكّرتُ غفلة مداعبة أبي ذات مساء وهو يدعوني بالدكتور (علاء)؟ فقرّرتُ أن أصبحَ طبيبًا حينها، نظَرتُ إلى صورته المتّشحة بشريط أسود، معلّقة على جدار أصفرَ قديم شرّخته السنون وسقط عنه الملاط الذي كان يغطّيه في بعض الأماكن.

- ربّما ناجي على حقّ هذه المرّة، مهنة الطبابة صعبة تحتاج مراسًا هادئًا بعيدًا كلّ البعد عن مشاهد الحرب والقتل والتهجير في بقعة قصيّة جدًّا من هنا حيث لا ألم يتراكم في الوجوه، ثمّ إنّه لا يوجد فرق كبير بين الطبّ والبناء! هذا يبني جسمًا وذاك يبني بيتًا إذ لابدّ لهذا الجسم الذي يُشفى من سكن يسكن فيه.

كانت تُراودني الأفكار المالحة متتالية عندما لمَحتُ صورة أبي وهو يشزرني بنظرة عنيفة لم أعهدها؛ شلَّتْ مفاصل مخّي تمامًا وأوقفتني عن التفكير!

استيقظتُ صباح اليوم التالي مبكّرًا، حملتُ حقيبة المدرسة وتسلّلتُ خلسة قبل استيقاظ ناجي.

كان الفصل صاخبًا يعلوه صراخ الأولاد وهم يتناقشون حول المباراة القادمة بين فريقي (إيطاليا) و(إنكلترا) بينما انشغل آخرون بالمشي بين الرحلات كآخر محاولة لممارسة الحريّة قبل دخول المعلّم، أمّا رفيقي جمال فلا يني يضرب قفاي بين الفينة والأخرى، فرحتُ أجري خلفه طافيًا كلّ الردهات وفجأة وأنا أركضُ ارتطمتُ بقوّة بالمدير السائر بكلّ وقار وجلال في الفسحة التي تنتصف الصفوف، فسقطنا أرضًا!!

فرّ جمال، وفي رعب تامّ وثبتُ ووقفتُ على قدميَّ  ثمّ ركضتُ مهرولًا لا ألوي على شيء حتّى وصلتُ الفصل واختفيتُ بين المقاعد كفأر شريد، لمحتُ المدير وقد مدّ رأسه باحثًا عنّي ثمّ ابتعد بعصبيّة.

دخل معلّم اللغة العربيّة  متجهّمًا عبوسًا كعادته، يضع نظّارته التي لا ينفكّ ينظر من فوقها، شيء فيه يذكّرني بوالدي، وقارُه؟ حبّه للوطن؟ أم شامته الناتئة في ذقنه؟ كان الدرس عن شعراء العصر الأمويّ، شرح  قليلًا عن تلك الحقبة وقبل أن يكمل قال: هل من سؤال؟

لم يجرؤ في العادة أحد أن يسأل الأستاذ قاسم، تحتاج هذه الخطوة دومًا تفكيرًا مضاعفًا، ولكنّي رفعتُ يدي بتوجّس فنظر مرّة أخرى من فوق النظّارة، أردتُ إلغاء الفكرة والتراجع ولكن كان قد فات الأوان فقال: 

- تفضّل!

  قلت بنبرة لم أرغب فيها أن يسمع الرعشة التي اعترت صوتي المتهدّج:

- ل...ل...لماذا يا أستاذ علينا حفظ الشعر ما دمنا نريد أن نصبح أطبّاء؟!

  جفل كلّ مَن في الصفّ وخيّم في المكان هدوء شاحب، نظر إليّ بازدراء ثمّ استأنف:

  - حتّى لا يتراكم عدد الأطبّاء الذين لا يستطيعون التمييز بين الخمسة والطمسة!

  تعالت ضحكات الأولاد فجلستُ خجلًا بينما راح الأستاذ يُكمل شرحه: 

- من أشهر الشعراء الذي قيل عنه لولا شعره لذهبت ثلث العربيّة (الفرزدق...)

فتحتُ الكتاب على الدرس، كانت صورة الكعبة مرسومة بإتقان في وسط الصفحة لامعة برّاقة، خاطبتُ نفسي:

- يا إلهي، منذ متى قرّرَتْ وزارة التربية إضافة الصور إلى المناهج بهذه الدقّة العالية؟! 

كانت صورة ثلاثيّة الأبعاد قد برزت قليلًا على غير المعهود حتّى خلتُني لمحتُ حبلًا ممتدًّا في إحدى زواياها فقلتُ:

- كفَّ عن هذا إنّها صورة فحسب، ومددتُ يدي لألمسها وإذا بالحبل قد اشتدّ حول معصمي، ساحبًا إيّاي في هالة مهولة ما ورائيّة، جَعَلتني أحتشدُ فجأة أمام الكعبة بدون مقدّمات ممسكًا بتلابيبها ألبسُ ثيابَ الإحرام وأؤدّي مناسك الحجّ! تبلوَرَتْ بجلاء لا يُدحض وتَبَدّتْ لا يشوبُها من الريب شائبة، كانت منتصبة، مكلّلة بأستارها تناطح السماء في قمّة شموخها المعهود، تعلو من حولي أصواتُ التلبية مدوّية من كلّ جانب لتُضاعفَ عنفوان الحدث وجبروت الغرابة، فجأة اشتدّ التدافع وكثُر الهمزُ واللمزُ:

- إنّه عليّ بن الحسين!

- إنّه عليّ بن الحسين! 

دُفعتُ من قِبل الحشود نحو الوراء، أضاعتْ امرأةٌ طفلتَها فراحتْ تولول نادبة وهي تظنّ أنّها دُهست بين الزحام، أثار صوتُها وجيبًا ملحوظًا في دقّات قلبي وأنا أتصوّر طفلة ميتة بالدهس من قِبل آلاف من الناس بأجسادهم الضخمة مجتمعين في مكان واحد، كانت قريبة منّي أردتُ مواساتها والقول بأنّنا لم نتأكّد من ذلك ولكنّني دُفعت مرّة أخرى بشدّة كدتُ أقع على أثرها، مسكتُ بقوّة حبل الهميان الذي أوشك على الانفلات حتّى انفرَجنا بعد لحظات إلى سماطين، الجميع مطأطئ إجلالًا وكبرياءً، ما عدا تلك المسكينة التي راحت تتسلّل بين الجموع لاهثة ولهى، كنتُ أراقبُها من بعيد، تَقدّمَ الإمام في هالة مكلّلًا بالنور، يبسط طمأنينة تثير الخوالج التي قرّرت حبس الأمنيات، وقد مُدَّت تحت رجليه آلاف من أجنحة الملائكة في حضور أثيريّ طافح الضياء والتلألؤ ممسكًا بيد طفلة صغيرة قد عقصت شعرها إلى الأعلى، فانفلتت خصلة ذهبيّة عصيّة على حزمتها في جانب وجهها، هرَعَتْ المرأة نحوها وتلقّفَتْها في حضنها بعد أن أوشَكَتْ على الانهيار، نظر إليها ابن النبيّ نظرة معاتبة وقال:

- انتبهي للصغيرة يا أمة الله، من حقّها عليكِ مداراتُها!

ثمّ نظر نحوي و رمش بعينيه بطريقة وديّة، يدقّق في تجاويف روحي وقممها، كانتا لاهبتين مثل شمس حارقة!

أجفلتُ وسَرَتْ رعدة باردة أسفل عمودي الفقريّ وانتصب شعر ذراعي!

في غمرة الحدث تعالى صوت من دكّة نُصِبَتْ في الأعلى جلس عليها أميرٌ أمويٌّ يتّكئ على المسند، سأل بتهكّم وقد اعترت خدّيه بقعة حمراء، مَن هذا؟!

خَرَجتْ كلماتُه تقطرُ بالمقت والغضب لترتطم بجدران الكعبة مرتدّةً نحو التسافل المتمادي، خيّم صمتٌ يحمل توقّعات فسيحة وبعد لحظات قام من بين الجموع رجل ذو مهابة في وجهه سيماء العارفين كسر جدار الصمت المهيمن على الساحة وانبرى قائلًا:

- أنا أعرفه!

 هذا الذي تعرف البطحاء وطأته 

و البيت يعرفه..... 

 و تلى قصيدة منعشة وكأنّه يغترف من غديرعذب ويصبّه في كبد حرّى.

  كنتُ سارحًا في هذه المسرحيّة الملكوتيّة وإذا بصفعة على قفاي تُعيدُني إلى الواقع، همس جمال من المقعد الخلفيّ:

- هل ستبقى هائمًا كلّ الدرس؟!

   لاحظ الأستاذُ الجلبة فاستدعاني إلى السبّورة لقراءة القصيدة، فتمتم جمال:

-(انلاصت) وعليّ!

  اختلجَ قلبي حتّى كاد أن يقفزمن بين ضلوعي، و أخذت يداي  تنزّان عرقًا باردًا مسحتُه ببنطالي ، ولكن فجأة غمرتني قوّةٌ مجهولةٌ بهيمنة بلاغيّة عجيبة بدأتُ أقرأُ على أثرها باقي أبيات القصيدة بكلّ ما أوتيتُ من حماس مارًّا بكلّ اللحظات الشفيفة التي تهيمن على المواقف عند ذكر المقدّسات، بينما كنتُ أقرأ لمحتُ المدير المتسكّع في الردهة قد توقّفَ عند الباب وراح يستمع إليَّ! 

لم تكد تمرّ دقيقة واحدة حتّى اختفت فجأة من ملامحه الباردة تلك الصورة المتجهّمة، اختفت بالفجأة التي تجلّت بها، وبانت على وجهه مسحة دافئة، خيّم سكون في الصفّ اخترقه بعد ثوانٍ صوت تصفيق المدير، تلاه تصفيق المعلّم ثمّ الطلّاب، تقدّم نحوي المدير مربّتًا على كتفي وهو يسأل الأستاذ مَن هذا؟ فأجابه الآخر مبتسمًا:

- هذا الدكتور علاء!

الفكر
العاطفة
القيم
التاريخ
قصة
الامام السجاد
شارك الموضوع :

اضافةتعليق

    تمت الاضافة بنجاح

    التعليقات

    آخر الاضافات

    قارئة تُشعل شمعة الأمل في ظلام الجهل .. حوار مع القارئة مريم العيساوي

    البهجة؟ لا تبحث عنها… إنها تحت الوسادة

    الرجل "الألفا" يشعر بالوحدة والعزلة.. فهل من نموذج جديد لمعنى الرجولة؟

    مودّة "ذوي القربى" جنّاتٌ خالدة

    رجاء صادق

    لماذا لا نسقط من السرير أثناء النوم ليلا؟

    آخر القراءات

    لا إفراط ولا تفريط.. الزهراء نموذجا!

    النشر : السبت 11 شباط 2017
    اخر قراءة : منذ ثانية

    في المنتصف

    النشر : الخميس 20 كانون الثاني 2022
    اخر قراءة : منذ ثانية

    السيدة الزهراء.. شمس العلم والمعرفة

    النشر : الخميس 31 كانون الأول 2020
    اخر قراءة : منذ ثانية

    شواهد من شعر المرأة الشرقية

    النشر : الأحد 20 تشرين الثاني 2022
    اخر قراءة : منذ ثانية

    تأزيم الأزمة ديدن المجتمع

    النشر : الخميس 18 شباط 2021
    اخر قراءة : منذ ثانية

    نمط الحياة الصحي الخالي من التدخين يطيل العمر 10 سنوات على الأقل

    النشر : الثلاثاء 31 تموز 2018
    اخر قراءة : منذ 6 ثواني

    الأكثر قراءة

    • اسبوع
    • شهر

    قارئة تُشعل شمعة الأمل في ظلام الجهل .. حوار مع القارئة مريم العيساوي

    • 3319 مشاهدات

    كيف أصبح "شات جي بي تي" مرجعاً لحياتنا؟

    • 426 مشاهدات

    الهندسة الخفية لتعفين العقل

    • 344 مشاهدات

    السم الأبيض؟ أسباب تجعل السكر خطرا على صحتك

    • 343 مشاهدات

    أهمية متسلسلة "فوريير" في التكنولوجيا

    • 342 مشاهدات

    صخب المبالغة: مأساةٌ وجودية!

    • 306 مشاهدات

    قارئة تُشعل شمعة الأمل في ظلام الجهل .. حوار مع القارئة مريم العيساوي

    • 3319 مشاهدات

    مهرجان الزهور في كربلاء.. إرثٌ يُزهِر وفرحٌ يعانق السماء

    • 2324 مشاهدات

    يوم الكتاب العالمي: إشعال شموس المعرفة بين الأجيال وبناء جسور الحضارات

    • 1341 مشاهدات

    من كربلاء إلى النجوم... طفل السبع سنوات يخطف المركز الأول مناصفة في الحساب الذهني ببراءة عبقرية

    • 1320 مشاهدات

    جعفر الصادق: استشهاد نور العلم في وجه الظلام

    • 1191 مشاهدات

    حوار مع حسين المعموري: "التعايش السلمي رسالة شبابية.. والخطابة سلاحنا لبناء مجتمع واع"

    • 853 مشاهدات

    facebook

    Tweets
    صحيفة الكترونية اجتماعية ثقافية بادارة جمعية المودة والازدهار للتنمية النسوية

    الأبواب

    • اسلاميات
    • حقوق
    • علاقات زوجية
    • تطوير
    • ثقافة
    • اعلام
    • منوعات
    • صحة وعلوم
    • تربية
    • خواطر

    اهم المواضيع

    قارئة تُشعل شمعة الأمل في ظلام الجهل .. حوار مع القارئة مريم العيساوي
    • منذ 24 ساعة
    البهجة؟ لا تبحث عنها… إنها تحت الوسادة
    • منذ 24 ساعة
    الرجل "الألفا" يشعر بالوحدة والعزلة.. فهل من نموذج جديد لمعنى الرجولة؟
    • الأحد 18 آيار 2025
    مودّة "ذوي القربى" جنّاتٌ خالدة
    • السبت 17 آيار 2025

    0

    المشاهدات

    0

    المواضيع

    اخر الاضافات
    راسلونا
    Copyrights © 1999 All Rights Reserved by annabaa @ 2025
    2025 @ بشرى حياة