في زمن تكاثرت فيه الآراء والمدارس والأفكار والتوجهات، في زمن صار الوعي هو المقياس، فكلاً يتكلم ويفتي ويُنظّر ليس في أي كتاب إنما في كتاب الله تعالى الذي هو أقدس الكتب، والذي لا يعلم تفسيره وتأويله، ظاهره وباطنه، مكنونه وعمقه إلا خواص خلق الله تعالى، تظهر أصوات تفسر كلام الله تعالى بغير وجه حق.
وهذا ليس بالخطر البسيط خاصة لمثل هؤلاء الذين يأتون بحقائق علمية وكلام منمق، وشواهد يُسخرونها بما يتوافق مع المقاصد التي يريدون أن ينسبوها لظاهر الآيات الكريمة، فمن لا مرجع صحيح أصيل يرجع إليه ليتأكد، لن يكون أمامه إلا التصديق والأخذ بهذه الآراء والأطروحات والعمل وفقها.
والعجيب-ولا عجب- أن كتاب الله تعالى لم يخلوا من تنبيهنا لأمثال هؤلاء بل وشخصهم بشكل دقيق، وصريح بقوله: }هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ{(آل عمران: 7).
فهم ممن زاغت قلوبهم عن الحق، واتبعوا أهوائهم فَفَتنوا أنفسهم وفَتنوا من يُصغي لهم بتأويل النص القرآني وتفسيره بما ينسجم مع أهوائهم-وعلى حد تعبيرهم بما يناسب مستوى وعيهم وفهمهم!.
كما وقد شخصت الآية العلة من وصولهم لذلك ووصول من يَتقبل ويتبع ما يقولون إنهم لم يأخذوا ويحكموا عقولهم بأن يرجعوا للمصدر الأصل الذي عنده تأويل الآيات المتشابهات وهم الراسخون بالعلم.
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن العلم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) لينبت في قلب مهدينا كما ينبت الزرع على أحسن نباته، فمن بقي منكم حتى يراه فليقل حين يراه: السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة والنبوة ومعدن العلم وموضع الرسالة»(١).
فمن الملفت أن الإمام الباقر (عليه السلام) بعد أن وصف طبيعة علم إمام آخر الزمان، طلب من منتظريه أن يسلموا عليه بسلام عام شامل، ولعل في ذلك ترسيخ العلاقة التي لا شك ولا قلق ولا اضطراب فيها إن كثرت الأقاويل وتطورت العلوم في زمن غيبته، أي أن يبقى المؤمن المُنتظِر واثقا ومُسلمّا لمنبع العلم الذي يستقي منه معارفه وعلمه، لأنهم الأصل لكل العلوم، والموضع الذي لا يضع تعالى حقائق علمه إلا في صدورهم.
بالنتيجة لنا أن نعرف بأي نعمة نحن، وفي أي حال إيماني نعيش، وأي اطمئنان علمي ومعرفي في كتاب الله نملك، فلا تخبط، ولا تقول على كتاب الله، ولا إتباع لهوى النفس، ولا إضلال للغير، لأن المنبع الذي نستقي منه لديه معارف كتاب الله بَينة لا لبس ولا اختلاف فيها، إنه إمام زماننا وترجمان كتاب ربنا صلوات الله عليه.
فهذا جانب من جوانب القوة التي نملكها في عقيدتنا الاثني عشرية لا يملكها أحد، مهما علا شأنه، وبلغت درجة معرفته وفهمه وتطوره العلمي، فإن لم يكن رجوعه بتحصيل المعارف لهذا النبع سيبقى ظامئا، ولن يرتوي مهما بلغ.
____
اضافةتعليق
التعليقات