عندما يكون الدين هو القيمة العظمى في نظر الإنسان، وقدسيّته تفوق المقدّسات كلها؛ عندها ستنكشف أمام ذلك الإنسان آفاق رحبة، سيتجاوز النظرة الضيقة للأمور، وتنفتح بصيرته على رؤية واسعة للكون، والحياة، والمشاعر، عندها سيصغر كل شيء ويضمحل، ويفقد بريقه مهما كان ذلك البريق أخّاذا وخاطفا للأبصار، سيتلاشى كالسراب الزائف ليترك المجال لنور الحق ينير الزوايا المعتمة في النفس الإنسانية .
إن إدراك قيمة الدين الإلهي، والمنهج الرباني، ومعرفة رجاله المنتخبين من قبل السماء حق المعرفة، سيمنح الإنسان وعيا راسخا، ومحركا قويا يحرّك صاحبه بإيجابية منقطعة النظير، ويدفعه للسعي لنصر الدين، والتضحية من أجله بكل غالٍ ونفيس، ولن يثنيه عن عزمه شيء، أو يقف في طريقه عائق حتى أعمق المشاعر وأكثرها سيطرة وتأثيرا على وعي الإنسان وسلوكه .
عندما تمتلك امرأة هذا الطراز من الوعي العقائدي، سوف يتسع نطاق خطواتها متجاوزة مشاعر الأمومة التي تعتبر من أجمل وأرّق المشاعر الإنسانية وأكثرها دفئا وحنانا، والتي لا ينافسها أي شعور إنساني آخر .
عندنا ننظر إلى السيدة أم البنين عليها السلام من هذه الزاوية سنفهم سرّ عطاء هذه المرأة العظيمة، وقدرتها الباسلة على هذا الصنف العجيب والراقي من التضحية والإيثار .
تلك الأم الاستثنائية ولدت رجالا استثنائيين، أجملهم خَلْقا، وأروعهم خُلُقا، وأنبلهم نسبا، وأطيبهم أرومة؛ قدمتهم قرابين على مذبح التضحية والفداء من أجل الدين بكل صبر وثبات ويقين واحتساب؛ كل ذلك عطاء الإيمان الراسخ، وثمرة المعرفة الحقّة بإمام الزمان، وحجة الله في الأرض، ووجوب طاعته ونصرته، والتضحية في سبيله بأعز ما تملكه الأم، فلذة كبدها، وثمرة فؤادها !
مثل تلك المرأة العالمة الجليلة جديرة بأن يبحث عنها أمير المؤمنين عليه السلام، ويسأل عنها العارف بالأنساب؛ ليدخلها في بيت من أفضل البيوت التي {أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَیُذۡكَرَ فِیهَا ٱسۡمُهُ}، ولتكون جزء مهما وفعّالا من تخطيطه المستقبليّ، ومشروعه الآتي !.
الإمام علي عليه السلام لم يكتفِ بشجاعته وهو البطل الذي كان سيفه يحسم المعارك، ويكفي الله به عن المؤمنين القتال، وهو صاحب الضربة التي عادلت عبادة الثقلين إلى يوم القيامة بشهادة النبي صلى الله عليه وآله، لم يكتفِ بشجاعته؛ ولا بعلمه ولا بحسبه الشريف؛ بل أراد امرأة نبيلة ولدتها فحول العرب، امرأة ذات شجاعة، وعلم، وشرف، وهيبة؛ لتكون الحضن الذي يربّي، والحجر الطيب الذي ينشئ ذرية طيبة تحمل المسؤولية غدا وتكون قادرة على الوقوق بكل ثبات وبسالة عندما تهبّ ريح الغدر والعدوان، وتدور رحى حرب ضارية لا تعرف الرحمة، تسعى لإطفاء نور الله، واستئصال ذرية رسوله!.
لقد عرفت أم البنين قيمة البيت الذي دخلته، إنه بيت الوحي والنبوة، بيت كانت تخدمه الملائكة فهي تتشرف بخدمته وخدمة ساكنيه، بيت يعبق بأنفاس الزهراء وسيرتها العطرة، ويضم ذريتها الطاهرة التي أذهب الله عنها الرجس، هذا التميّز الذي حظيت به أم البنين بأن تكون جزء من هذه العائلة الفريدة لهو شرف لا يضاهيه شرف، ونعمة لا تقاس بها نعمة، ثم يكتمل العطاء الإلهي لهذه المرأة بأربعة أقمار أنارت سماءها؛ لذا كانت شاكرة لهذه النعمة، ووفية لهذا العطاء، ومن ثم مدركة للدور الذي كُلّفت به، والمسؤولية التي أُنيطت بها، والتي قامت بها بنجاح باهر، وصدق، وإخلاص !.
فهل نعجب بعد هذا إذا نادى شبلها يوم الطف غير عابئ بكفه المقطوع:
إني أحامي أبدا عن ديني
وعن إمام صادق اليقين
نعم .. إنه الدين، وإمام الصدق الذي يمثله هو ما يدافع عنه قمر العشيرة، هذا الدرس الذي تعلمه من مدرسة الأم العارفة، الأم العملاقة التي تجاوزت المشاعر التقليدية لزوجة الأب، والتي لا تحمل لأولاد زوجها سوى الكراهية، والقسوة، والتنكيل؛ هذه المشاعر التافهة التي لا تليق بمن يدرك قيمة الدين وإمام الحق والصدق .
من أم البنين نتعلم هذا الدرس الذي علمته لأبنائها، والذي عاشت به وله، أن يكون الله هو الهدف وهو الغاية التي من أجلها يصغر كل عطاء، وتهون كل تضحية، فماذا يفقد من وجد الله، وماذا يجد من فقده؟ وماقيمة أية صفقة لايكون الله تعالى طرفها الأهم؟
لقد ربحت صفة أم البنين مع الله؛ لذا منحها هذه المنزلة الرفيعة في الدنيا بأن جعلها بابا لحوائج المؤمنين لا يخيب من قصده، ومقامها في الآخرة أعظم وأبهى في جوار من أحبتهم وأخلصت لهم الوفاء والودّ في حضيرة القدس مع محمد وآل محمد!.
اضافةتعليق
التعليقات