عُقد لقاء لكادر مدرسة الاحسان الحسيني التي أقامتها جمعية المودة والازدهار للتنمية النسوية لتعريف قيم ومفاهيم الامام الحسين (عليه السلام) مع سماحة آية الله السيد مرتضى الشيرازي (دام ظله) وذلك في النجف الأشرف بتاريخ: 3/10/2021 الموافق 25 صفر 1443.
حيث بدأ سماحته الحديث بالآية القرآنية المباركة: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما أولئك يجزون الغرفة بماصبروا ويلقون فيها تحية وسلاما).
صفات عباد الرحمان
الحديث حول هذه الآية الشريفة حديث ممتع ومعمق وطويل، يمس حياة كل مؤمن ومؤمنة، وعلى كل شخص أن يضع هذه الآية الكريمة نصب عينيه، فهل تلوتموها كدعاء محبّذ بينكم وبين أنفسكم طوال الأسابيع أو الأيام الماضية؟، لأن هذه صفة عباد الرحمان، التي تبينها الآيات الكريمة، هكذا يقول الله جل اسمه: وعباد الرحمان، أفلا يجدر بنا ان نتذكرها دائماً؟
الفرق بين العباد والعبيد
وهناك فرق بين العباد والعبيد حسب المصطلح القرآني، فكلما كان المقام مقام ذنبٍ أو نقصٍ أو تهديد أو ما أشبه، فان الله سبحانه وتعالى يستخدم مفردة العبيد، بينما إذا كان المقام مقام مدح وثناء وإجلال يستخدم جل اسمه العباد. مثلاً يقول تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبيدِ)[1]، لأن هؤلاء يستحقون العقوبة فيقول الله جل اسمه انه يعاقبهم استحقاقاً لا بظلمٍ منه تعالى، فكل مكان يكون الأمر في السيئات فانه يجري استخدام مصطلح العبيد، أما في الآية مورد البحث فقد استخدم جل اسمه كلمة العباد، فإذا أردنا أن نكون منهم فعلينا أن ندعوا بهذه الآية الطيبة، (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً...)[2] إلى أن يقول بعد عدة آيات (وَالَّذينَ يَقُولُونَ...)
إذاً دائماً قولوا هذه الكلمات النورية وكرروا هذه الآيات الكريمة باستمرار، وحاولوا أن تجسدوها في حياتكم وتتمثلوها.
التفقه في مفردة (إِماماً) لماذا وردت بصيغة المفرد؟
(وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقينَ إِماماً)[3] نقف قليلاً عند مفردة (إِماماً)، قد يُتساءل وينبغي ذلك، أنه ينبغي أن تكون الصفة تابعة الموصوف، في التذكير والتأنيث، التعريف والتنكير، والإفراد والتثنية والجمع، وكذلك في الحالات الإعرابية مثلاً رجل كبير، وليس رجل الكبير، امرأة عالمة، وليس امرأة العالمة، الصفة تتبع الموصوف في أربعة من عشرة ومنها الإفراد والتثنية والجمع.
وبحسب هذه القاعدة وكما نرى مع آية اجعلنا للمتقين فان من المفترض أن تكون، أئمة، لأن اجعلنا جمع، وهذا المفعول الأول لجعل لأن جعل يأخذ مفعولين، جعلت زيداً عالماً، فالمفعول الأول ضمير الجمع، فالمفروض اجعلنا للمتقين أئمة.
فلمَ الله سبحانه وتعالى أعرض عن الجمع والإفراد مع أن مقتضى القاعدة النحوية المعروفة المسلمة لاشك فيها؟
أبواب فهم الآية
في الحقيقة القرآن الكريم فيه بحار من المعارف، يعني كل كلمة إذا تدبرنا فيها تفتح لنا أبواباً، ليس مجرد أبواب جمالية بل أبواب في العمق. يعني أبواب معرفية، ويمكن الجواب عن هذا السؤال بوجوه: الوجهان الأولان منهما ينفعاننا جداً..
1- لأن ضمير أجعلنا جمع وهو انحلالي
الوجه الأول: أن ضمير (وَاجْعَلْنا) ضمير جمع، وكل جمع ينحل إلى الآحاد، فالمسلمون مثلاً هم مسلم ومسلم و... والمؤمنات: مؤمنة ومؤمنة و...
والجمع انحلاليٌ يعني في اللفظ جَمَعْنا الآحاد المتعددة وأما في المعنى فان كل واحد له وجود متشخص وتكون النتيجة في الوجه الأول للإجابة عن السؤال هي: اجعل كل واحدٍ منّا، فالتطابق فيما يبدو غير موجود في ظاهر اللفظ لكنه متحقق في المعنى وقد حصل (التفات) من ظاهر اللفظ إلى واقع الأمر: أي اجعل كل منا للمتقين إماما فهنا يوجد تطابق.
هذا الوجه الأول وهو حسن وجيد، وحسب هذه الآية الشريفة كل واحدة منكن وكل واحد من الرجال وكل من يعتقد بالقرآن الكريم، يجدر به أن يكون إماماً.
والآن تأملوا هل أنتم أئمة للمتقين؟، ان الآية بالغة القوة في الدلالة، وذلك لأن المتقين لا يتحددون في النجف أو كربلاء، في امريكا واوروبا وافغانستان وباكستان ولبنان بل يتواجدون بكل مكان حتى في جبال هملايا وغابات الأمازون، والآية ليست خطاباً لشخص معين، كلا، بل هي خطاب لعباد الرحمان، إذا أردتم أن تكونوا من عباد الرحمان حقاً فهذا هو الطريق وهذا هو الضابط، أن تكونوا للمتقين إماماً، أما كيف يصبح الفرد للمتقين إماما فهذا بحث آخر.
وفي هذا الزمن أصبح الأمر سهلاً نسبياً بينما كان سابقاً صعباً جداً إذ كان الخطباء يلقون محاضرة يحضرها مئة مثلاً، أو ألف، غاية الأمر عشرون ألفاً أو مائة ألف، وانتهى الأمر، أما الآن ومع مواقع التواصل فان ذلك يتم ببساطة شرط أن تكونوا بالمستوى، وسائل التواصل توصل ماتكتبونه أو تلقونه أو ترسمونه أو تنتجونه إلى العالم كله ويمكن ان يسمعها أو يقرأها عشرات الملايين.
2- أو المراد أجعل مجموعنا إماماً
الوجه الثاني، وجه معنوي ولكنه يحل المشكلة لفظياً أيضاً، وهو: واجعلنا يعني اجعل مجموعنا والمجموع هو واحد، أي اجعلنا نحن كجماعة، يعني أنتم الآن كمجموعة من المؤمنات لديكم جمعية أو مؤسسة معينة فهذه الجمعية أو المجموعة أو هذا الاتحاد، مثل نقابات العمال أو الأطباء، اتحاد الصحفيين أو غير ذلك فهذه المجموعة اجعلها إماماً للمتقين، وعلى سبيل المثال: البيت يحتوي على مرافق كثيرة، غرف متعددة وقاعة استقبال ومطبخ وساحة وما إلى ذلك، هذا المجموع يسمى بيتاً أو منزل، فكذلك اجعلنا أي هذه المجموعة اجعلها إماماً للمتقين، وهذا معنى دقيق، إذ يمكن أن لا تكون كل واحدة منكن إمامة أو إماما للمتقين.
التخصّص والتكامل طريق العمل بهذه الآية
والآن يجب ان نتساءل: كيف يمكنكم ان تمتثلوا للآية الشريفة؟
إن احدى الطرق التخصص بالطريقة الآتية: ان تتخصص احداكن مثلاً في نهج البلاغة، والثانية في الصحيفة السجادية والثالثة تتخصص في القرآن الكريم، إذ أن تتخصصوا في كل هذه الحقول أمر صعب بل غير ممكن، أما تخصص كل واحدة في حقل أو حقلين فهو أمر سهل نسبياً، والرابعة: تتخصص في علم الإجتماع الإسلامي، الخامسة: في علم النفس الإسلامي، وكذلك علم الاقتصاد، السياسة الاسلامية، الحقوق، القانون، الإدارة، وغير ذلك. إضافة إلى ذاك الذي يكتب، ذاك الذي يفكر، والذي يقوم بالإعلام والتسويق والآخر الذي يقوم بأمر التمويل، فهذا المجموع ينهضون بالعمل الصالح وبالإمامة حتى ترسوا السفينة على شاطئ الأمان.
فإذا كانت مجموعتكم تتكون من خمسين امرأة فاضلة محترمة أو مئة، فإذا عملتم كمجموع بهذا الذي اقترحناه، فان هذه المجموعة ترتقي حتى تكون بمستوى إمام للمتقين، أنتم بمفردكم قد لا يمكنكم أن تكونوا إماماً للمتقين لكن المجموع قد يمكنه ذلك.
إضافة إلى ذلك: العائلة أيضا لتكن إماماً فان الناس قد يرون العائلة مثالية، (الأب مثالي، البنات، الأبناء، الأصحاب، الكنّات)، فذلك يكون مثالاً حسناً وأنموذجاً ممتازاً قد يطرح على مستوى العالم.
والحاصل: ان الشخص قد يكون إماماً، وأسرته كذلك قد تكون إماماً، ثم جمعيته، ثم محلته ثم بلدته ثم محافظته ثم دولته.
الإمامة تتجلى أيضاً في تجاوز الخلافات
وهناك تجلي آخر في توضيح وتفسير الآية، وهو ضرورة سحق الأنا، والأنا والأنانية تعتبر إحدى أهم المشاكل الاجتماعية والأسرية، وإذا تساءلنا عن السبب وراء حصول النزاعات والصراعات فسنجد انها تحدث بسبب:
1- الاختلاف في الاجتهادات.
2- الاختلاف في المصالح.
3- الاختلاف في الأذواق والتقاليد.
4- الاختلاف في العادات.
هذه أسس للخلافات في كل شيء، أي لماذا الناس تتنازع: الدول، الأشخاص، العشائر، ولماذا يحدث الصراع بين الناشطين أو الناشطات وبين المراكز الدينية؟ الجواب بسبب هذه الأربع أمور:
السبب الأول: الاختلاف في الاجتهاد، إذ يفكر الأول أن هذا هو الصحيح وهو الصواب، بينما الثاني يفكر بالعكس، كما ان الطبيب قد يعطيكم دواء بينما يرى طبيب آخر ان له مضاعفات سلبية فيجب أن تتناولون دواءً آخر.
السبب الثاني: الاختلاف في المصالح، إذ هناك من يرى في الرئاسة مكانة وتسلطاً على عَرَض الحياة الدنيا وثرواتها الزائلة، والنزاعات تحدث لأجل مصالح تتعارض أو تتضاد.
السبب الثالث والرابع: للخلافات اختلاف الأذواق والسلائق أو العادات والتقاليد وما أشبه ذلك.
فكثيرا ما يختلف الناس لا لأسباب دينية أو اجتهادية، (ككونهما من دينين أو مذهبين أو كون أحدهما يقلد مرجعاً آخر أو لدى كل منهم اجتهاد معين في التعاطي مع قضايا مختلفة)، بل لمجرد الاختلاف في الأذواق، ككون الزوج يحب لوناً، أو طعاماً معيناً، أو هذه الطريقة أو السيارة أو الملابس، وزوجته بالعكس.. في الحياة والمعيشة والدخول والخروج وغير ذلك.
والإمامة هنا تتجلى أيضاً، على التفسير الثاني للآية الشريفة، فان الناس ترى مجموعتكم، والناس تفهم جيداً، أي انه لا يخفى على الناس فما انتم عليه سوف يظهر للناس، إن خيرا فخيرا وإن شراً فشراً. فهذا الذي لديه حب الأنا ويطلب الرئاسة في مجموعة أو مؤسسة أو غيرها للأنا، فانه حتى لو غطّاه بغطاء آخر وأطّره بغير إطار فان الناس ستعرف، قد لا يقولون له شيئا لكن الله يتدخل، (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)[4]، وفي الرواية الشريفة ( إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْداً نَوَّهَ بِهِ مُنَوِّهٌ مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَاناً فَأَحِبُّوهُ فَتُلْقَى لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ وَإِذَا أَبْغَضَ اللَّهُ عَبْداً نَوَّهَ مُنَوِّهٌ مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَاناً فَأَبْغِضُوهُ قَالَ فَيُلْقِي اللَّهُ لَهُ الْبَغْضَاءَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ)4 وهذا يعني ان الله يتدخل مباشرة، لأنه يحيط بالأسرار، فيُري الناس حقيقة هذه المجموعة وانها متآلفة حقاً، متعاونة، متحابة في الله، لا تفكر في الأنا بل في مصلحة الدين، الشريعة، المذهب، ومصلحة الناس.
من جهة أخرى فان هذا المعنى (الإمامة) قائم في الجمع، فإذا قرر أحدهم أن يعيش مثلاً في جزيرة منعزلة، في غارٍ أو كهفٍ، فانه لا يكون إماماً للناس، لأنه لم يبتلَ بالامتحانات، والشهوات، ان هذا الشخص ليست له قيمة كبرى، إذ (عند الامتحان يكرم المرء أو يهان).
والتجمع ينطوي على مجموعة من الإمتحانات من نمط آخر، فاطلبوا تحت قبة الإمام الحسين وأبي الفضل العباس وعند أمير المؤمنين صلوات الله عليهم، أن تكون جمعيّتكم إماماً على مستوى الكرة الأرضية، لماذا لا، بحيث الناس من الخليج إلى الهند وباكستان ولبنان وسوريا وإيران وأوروبا وأمريكا وغيرها، إذا أراد أصحاب الهيئات والمواكب والجمعيات والمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، إذا أرادوا أن يشيروا إلى قدوة حسنة ليعلّموا جماعتهم، فانهم يشيرون إلى مؤسستكم, هذا الذكر الحسن لكم، وهذه القدوة التي يتأسى بها الآخرون.
إذن الاحتمال الأول في تخريج وجه التخالف في الجمع والإفراد هو: اجعل كل واحد منا إماماً، والاحتمال الثاني: اجعلنا كمجموع إماماً.
3- (إماماً) اسم جنس وهو عام معنىٌ
الوجه الثالث، فهو: ان الإمام اسم جنس واسم الجنس ينطبق على الآحاد فيكفي بقوته عن أداة الجمع، فمثلاً الإنسان، الآية الشريفة تقول (إن الإنسان لفي خسر)، فهذا الانسان مفرد ولم يقل الناس، لكنه اسم جنس، مثل البقر، الشجر، الحجر، فهو ينطبق على الجميع، فهو إذاً بقوة الجمع، فإذا قلنا أن الانسان لفي خسر فهو في قوة كل انسان، وهكذا هلم جرا.
فالوجه الثالث، أن إمام اسم جنس، واسم الجنس بقوة الجمع، فيعادل الجميع لذا لا تخالف في الواقع.
الوجه الرابع، ذكره البعض، وهو يعاكس الوجوه السابقة، وهو أن إماماً جمع لا مفرد، فهو جمع من آمٍّ، مثل الناس صيام، فصيام جمع، نائم مفرد، نيام جمع، فإمام أيضا جمع، وآم مفرد جمعه إمام.
خطوات لتكونوا أئمة
تأسيساً على ذلك، وانطلاقاً من الآية الشريفة فان علينا الأمور النقاط التالية:
تقدموا كل سنة خطوة إلى الأمام
1- لكي تكونوا إن شاء الله أئمةً، فاحسنوا وضع مخططاتكم، يجب أن تتقدموا كل سنة خطوة إلى الأمام، كل أسبوع أفضل، وكل شهر أفضل أكثر، ولنتواضع في الكلام: ضعوا في بالكم إذا أردتم أن تكونوا أئمة وتمتثلوا لهذه الآية الشريفة، التطور في كل سنة وذلك بان تدخلوا مثلاً في دورة لمدة عشرين يوما أو خمسين سنوياً، فإذا كنتم خطباء فالخطابة درجات، ففي كل سنة ولمدة 30 يوماً يجب أن تدرسوا علم وفن الخطابة بشكل أعمق وأوسع، وأما إذا لم تكونوا خطباء أو مؤلفين فعليكم ان تحاولوا اكتساب هذه المهارة وتلك في دورات مركزة تتجدد كل سنة، والتأليف له درجات ومستويات. فأنتم في السنة القادمة تصبحون أفضل من السنة الحالية، وبعدها أفضل وهكذا.
والحاصل: ان تضعوا جدولاً إما لتطوير نفس المهارة من خلال دورات شهرية أو سنوية. واما لاكتساب مهارة جديدة كل سنة فتدخلون في دورة مركزة، هذه السنة للخطابة، والتي تليها: التأليف، ثم التربية، ذلك انكم تربون أبناءكم لكن هناك الكثير من الطرق المتطورة في تربية الأبناء، طوروا أنفسكم، وتقدموا كل سنة خطوة للأمام.
كل سنة ضعوا هدفاً أمامكم، اجلسوا، خططوا، وأنتم كجمعية خططوا لها وأيضاً كأفراد خططوا لأنفسكم وأزواجكم وأبنائكم، لأن عادة الناس انهم يصعدون فترة ويترقون ثم يتوقفون عند حد معين. مثلاً يصبح أستاذ جامعة، ويكتفي، و(مَنِ اعْتَدَلَ يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ)5 ، وكذلك قد تكون لكم تأليفات وقد تكون جيدة والناس تقرأها وتحبها، فترضون بالواقع ولا تتطورون، كلا، بل حاولوا كل سنة التقدم خطوة للأمام. كجمعية وكمجموع وكأفراد، هذه هي النقطة الأولى: خطوة للأمام في كل فترة من الزمن.
في نفس السياق، أحد الأساتذة كان يدرس بحث الخارج، قال لي شخصياً أنه منذ أربعين سنة يدرّس في الحوزة العلمية وهذا يعني انه يمتلك تجربة جداً غنية، لكنه فكّر، كما قال لي: لابد أن هناك أشخاصاً لهم علم ومهارة في التدريس أكثر مني، قال: سألت عن معهد يتميز بتدريس فنّ التدريس، عرّفوني على كلية من الكليات، وشاركت في دروسهم وقد انتفعت حقيقة رغم أني منذ 40 سنة أدرّس لكن هناك فنون وطرق تدريسية متطورة لم أكن أعرفها.
أحد الخطباء المشهورين أيضاً قال لي وقد رأيت أن هذا سر تقدمه، أنه كان ذاهبا في رحلة إلى بريطانيا وهناك سأل عن دورات للخطابة فدلوه على جامعة، وهو شخصية معروفة ويتقن الانكليزية، يقول بالفعل استفدت، كما انني أفدتهم! فاستفاد وأفاد، فدرس وتدرّس.
انطلاقا من هذا الذي قلناه، كونوا أئمة، هذا الأستاذ وذلك الخطيب صارا بالنسبة لي عبرة، وكلاهما مشهور لكنه كان يشعر أنه يجب أن يتكامل، وهو عين المطلوب.
ابنوا محطات مسانِدة أو رديفة
2- بناء محطات مساندة أو رديفة أو ما أشبه، وذلك كله يصب في منطلقنا من الآية الشريفة: ان تكونوا إن شاء الله أئمة أو إماماً، أنتم على سبيل المثل لديكم نشاط في كربلاء المقدسة، نشاط جيد، لكن قد تكون الامكانات المتوفرة في أماكن أخرى أكثر من هذا النشاط، فيجب أن تفتتحوا فرعاً لكم في بلاد أخرى، ابنوا محطات رديفة، أو قواعد انطلاق أخرى، في أميركا، ألمانيا، بريطانيا، الخليج، الباكستان، افغانستان، اندونيسيا، اليابان و... لماذا لا؟
انكم تعيشون في كربلاء أو النجف والناس من كل العالم يأتون إليكم، رجالا نساءً، أطفالا، شيوخا، وعليكم أن تتطوروا في كيفية استضافة الزوار وإدارة شؤونهم المادية والمعنوية والفكرية، هذا ضعوه في مخططكم إذا أردتم أن تكونوا أئمة، وهذا ليس سهلاً ولا عبثاً، هذا دعاء مهم جداً جداً، نعم بعض الروايات أوضحت بأن هذا تأويل الآية شيء آخر، ومستواها جداً عالٍ ورفيع.
إذن، النقطة الثانية لكي تكون أئمة، أو لتكونوا إماما، في خطة مركزة، ابنوا محطات رديفة من الآن إلى السنة القادمة، ابنوا أفرع لكم وأحسنوا الانتخاب، لأن نقطة البداية جداً مهمة، وأن يكون فرع لكم. في كل بلد بل في كل البسيطة إن شاء الله.
حصّنوا المجتمع أمام الشبهات
3- كل زمن له مميزات، له ما يتميز به، ومما يميز زمننا أن الشبهات أصبحت كالهواء الذي يتنفسه الشباب، سابقا كان الفيلسوف قد يطرح شبهة مثل السفسطائية، كان يجلس في الغرفة وكان يفكر مثلاً أن (كل ما في الكون وهم أو خيال، وعكوس في مرايا أو ظلال).. سابقاً كان الحمقى والسفهاء والخبثاء أيضاً، يطرحون أفكاراً قد تخالف البديهيات وكان يتأثر بها البعض، أما الآن فان كل عاقل وباقل (وهو شخص اشتهر بالحمق) حكيم أو سفيه، يطرح شبهة فانه وكالبرق الخاطف تصل كلماته إلى أنحاء الكرة الأرضية، عن طريق التويتر أو الفيس بوك أو الانستغرام أو الكلاب هاوس أو الفضائيات.
هذه هي المشكلة: الشبهات أصبحت معولمة، وهذا نوع من الإمتحان الإلهي: شبهة يصنعها شخص أو مركز دراسات في أميركا فتنتشر فوراً حتى أسرع من انتشار الميكروبات، والأوبئة، حركة التنقل أصبحت مذهلة، الشبهات أصبحت معولمة وعالمية، أنتم الآن كجمعية كيف تتصدون لمثل هذه الشبهات؟
ينبغي ان تكونوا ممن يشار إليهم بالبنان، إن استطعتم أن تحصنوا الشباب والشابات أمام هذه الشبهات الكثيرة، أستاذ جامعي مشهور كان هنا قبل فترة قال انه وجد في الانترنت حوالي 2000 شبهة مطروحة حول الامام الحجة!! مع العلم ان أكثرها مكررات بصياغات مختلفة.
وان المحصن أمام الشبهات اثنان فقط: أحدهم العالم حقا، والثاني المؤمن حقا. فان بعض الناس قلبهم قوي وايمانهم جدا قوي، فقد لا يستطيع الاجابة على الشبهة لكن إيمانه لا يتزعزع، ولكن كثيراً من الناس ليس لديهم العلم الغزير ولا الايمان العميق، الأمر أشبه بالمناعة، الآن الذي لديه مناعة قوية لا يتأثر بكورونا.
وعلى ذلك فان المؤمن والمؤمنة عليهم الاهتمام أكبر الاهتمام بالتحصين العام والخاص خاصة في هذا الزمن.
والتحصين له جانبان جانب الايجاب وجانب السلب، انظروا إلى تجلي ذلك في كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وحسب تعبير البعض: التخلية ثم التحلية ثم التجلية، خصصوا هذه السنة كما قلنا سابقاً للتصدي للشبهات العقائدية، هناك الكثير من البحوث والشبهات والأجوبة، تعرفوا عليها، هناك مثلاً شبهة جديدة أثيرت في ألمانيا بأن القرآن الكريم لم يكن موجودا في زمان النبي، بل وجد في عام 70 للهجرة، هذه شبهة والشاب الساذج تنطلي عليه، جواب الشبهة جاء من ألمانيا أيضا، نفس العلماء وجدوا نسخة تعود إلى زمان الامام علي عليه السلام، يعني عام 35 للهجري بخط الامام، وجدوها هم وفحصوا الصفحات واكتشفوا زمنها بدقة عن طريق بحوثهم المتطورة.. أجابوا عن الشبهة بأنفسهم!!.
وهناك أجوبة أخرى طبعاً، وكل يوم نواجه شبهة جديدة، اليوم زارني شاب جاء من أربيل، وقال أن هناك شبهة شغلت بالي يتداولها الملاحدة وهي أين آثار الأنبياء وشواهدهم؟ فأجبناه بأجوبة عديدة فاقتنع أين الأدلة على وجودهم، أنتم كأمهات وعضوات في الجمعية يجب أن تتصددو للشبهات، كل يوم موجة، فهذا زمن تموجات الشبهات، (إِذَا ظَهَرَتِ الْبِدَعُ فَعَلَى الْعَالِمِ أَنْ يُظْهِرَ عِلْمَهُ)6، إذن هذه السنة اجعلوها في الجمعية سنة عقائدية مركزة، وهناك أساتذة أكفاء في كربلاء، وقد تستقدمون من النجف أو قم، هذا جدا مفيد.
اهتموا بالشباب أكثر فأكثر
4 - اهتموا بشبابكم الأحداث أكثر، كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: عليكم بالأحداث فإنهم أسرع إلى كل خير.
وينقل لنا التاريخ ان أبا جعفر الأحول ذهب إلى البصرة، ويبدو أن الإمام (عليه السلام) هو الذي بعثه، البصرة كانت محطة للنواصب في ذلك الوقت، ثم تغيرت، كما نجد الآن بعض البلاد محطة للنواصب بينما لم تكن كذلك سابقاً، ذهب أبو جعفر إلى البصرة حتى يهديهم للصراط المستقيم، ولكنه فشل في مهمته، إذ كان كمن ينحت في الحجر الصلب نظراً لشدة تعصبهم، رجع للإمام الصادق، فأعطاه (عليه السلام) استراتيجية بديلة وهي (عليكم بالأحداث) فان العقول المتحجرة والذي عمره أربعين أو خمسين سنة وقد بني على شيء، فانه من شب على شيء شاب عليه، فتغيير هذا جدا صعب، ولذا قال عليكم بالأحداث..
في رواية ثانية عن الرسول الأكرم وعبارته ذات دلالة قوية جداً إذ يقول: (أوصيكم بالشبان خيرا فإنهم أرق أفئدة، وإن الله تعال بعثني بشيرا ونذيرا فحالفني الشبان وخالفني الشيوخ).
تعبير الإمام الصادق أنهم أسرع إلى كل خير وتعبير الرسول (صلى الله عليه وآله) (ارق افئدة)، والعبارتان تكمل احداها الأخرى. ان من عضد النبي أساساً هم الشباب إضافة إلى قليل من الشيوخ كحمزة.
وعلى ضوء هذا الكلام فان الوصية الرابعة هي: ضرورة تحصين كباركم وشبابكم أمام الشبهات، أحد العلماء كان يقول لي أنه يدخل على مواقع الملحدين، مواقع أسسها الملحدون العرب، المصريون، السعوديون، كان يدخل إلى مواقعهم ويردهم ويفحمهم، ويناقشهم، للباطل صولة وللحق دولة فلقد كانوا عندما يواجَهون بعالم حقيقي ينهارون تماماً، وعلى الرغم من ان وراءهم أجهزة عالمية وأموال لكننا الأقوى لو اتقّنا دراسة علم العقائد والكلام.
فالنقطة الرابعة هي بناء المستقبل والمستقبل هو أبناؤكم حتى لو كان عمر أحدهم سنتين مثلاً، فمن الآن ابنوا منظومته العقدية ضعوا لهم عدة دروس، سواء بان تدرسونهم أنتم أم تجلبوا لهم مدرساً، اهتموا بتدريسهم الفقه، العقائد، الأخلاق، السيرة والتاريخ، التفسير ونهج البلاغة على الأقل هذه الدروس الستة، ان أكثر أولياء الأمور في العوائل يهتمون بإدارة الشؤون المادية لأبنائهم، أكلهم، شربهم، منامهم، ولكنهم لا يهتمون بتدريسهم هذه الدروس، متذرعين بانه ليس لدينا وقت أو طاقة!!، والغريب ان لهم طاقة لكل شيء آخر إلا هذا!.
العلامة الأميني والشيخ الحلبي
نختم الكلام، حول أحد مشاهير العلماء العاملين وهو الشيخ محمود الحلبي وقد مضت على وفاته 24 سنة، فان اللافت ان كثيراً من العلماء الذين يموتون وحتى كبار العلماء بل حتى العديد من المراجع ينسى ذكرهم ويخبو أثرهم، أما هذا العالم فما شاء الله، يوماً بعد يوم جماعته في العالم يتكاثرون كمياً وكيفياً، ينمون ينشطون، بل يمكن القول ان من آيات الله ما عمله، فعلى سبيل المثال فان القائد يكون، عادة هو اللولب والمحرك، أما بعدما يموت فانه يخبوا أثره تماماً أو إلى حد ما، أما هذا الرجل فعلى العكس يوماً بعد يوم يزداد أتباعه وأكثرهم شخصيات وأساتذة جامعة وكما عرفتهم فهم متدينون ومثقفون، يتصدون للشبهات المختلفة التي تثيرها جهات منحرفة كالبهائية، الماركسية والشيوعية.
العلامة الأميني صاحب الغدير وهو قامة شامخة من قاماتنا الدينية والمذهبية سمع عن الشيخ الحلبي وطريقته المتميزة في تربية الشباب والمثقفين، فذهب إلى طهران حيث يسكن الحلبي حتى يزوره ويتعلم منه، فسأل عن عنوانه وذهب، يقول الأميني عندما دخلت إلى البيت وجدت ساحة كبيرة بعدها غرف، سمعت الشيخ يلقي محاضرة بحماس وصوته مرتفع جداً، يقول: دخلت ولكني فوجئت إذ رأيت الحضور خمسة أشخاص فقط لكن الشيخ كان مندفعاً وكأنّ مئة شخص يجلسون أمامه، كان الحضور شبابا بعمر 15سنة تقريباً وكان عمر الحلبي تقريباً 70، وهو خطيب وعالم مشهور، والمعتاد ان الشيخ الكبير لا يهتم بتدريس للصغار، ولكن الحلبي كان يعتقد بمقولة: أوصيكم بالشبان خيرا، وعليكم بالأحداث، ولذا ركّز على هؤلاء الخمسة أطفال ومجاميع صغيرة أخرى، وأنا أعرف أحدهم الآن وهو أستاذ جامعي معروف يتكلم ويخطب بشكل متميز، وكان الشيخ الحلبي يربيهم على فن المناظرة.
الشيخ الأميني عندما دخل على الحلبي، رآه الحلبي وقطع الكلام، لكن الأميني قال له انني أتيت كي أرى أسلوبك وأتعلم منك فرجاء استمر...، وكان الحلبي أحياناً لمدة سنة كاملة يعلمهم فن المناظرة، والمناظرة مثل الملاكمة، تحتاج إلى مِران مستمر وإلى فن وخبروية، هكذا كان يركز على الشبان والصغار.
وقد قرأت في تقرير أن الذين ربّاهم الشيخ الحلبي مباشرة وبالواسطة بلغوا عتبة الخمسين ألف شاب مثقف وجامعي وهذا رقم خيالي لأنه يعني معدل كل سنة ألف واحد متميز، أي كل يوم 3 أشخاص!!.
علينا أن نقرأ سيرة هؤلاء: كيف ربّوا، كيف علّموا، كيف ركّزوا وكيف كانوا للمتقين إماما، أنتم الآن عند أمير المؤمنين (عليه السلام) والدعاء عنده إن شاء الله مستجاب فادعوا لأنفسكم ولنا وللشيعة أن يوفقنا للعمل بهذه الآيات الكريمة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآل محمد.
اضافةتعليق
التعليقات