كي تتعرف على العالم من حولك، إصنع من نظرتك رُمحاً تثقب بها الأشياء وتدلف إلى داخلها، فتلك وسيلة كبيرة لتجنب الغباء، ووسيلة مهمة لمعرفة إذا كان هناك ما يستحق الوقوف وضياع الوقت من أجله! لا تحمل سنارتك وتذهب إلى صيد السمك وأنت لا تعرف في أي جانب من البحيرة ستصطاد!.
الرؤية الصالحة ليست فقط أن تحسن النظر في الأمور والآخرين، الرؤية الصالحة لا تكمن فقط في مجاملة الأشياء وتحسين صورتها بالنظر إلى الجانب الأفضل منها! تلك نسبة الربع فقط، وغالباً ما هيّ مؤقتة، مرسومة على رمال الشواطئ بتكلُف، ومع ذلك، أصغر موجة يمكنها محوها واعادتها إلى العدم، إلى حيث لم تكن!
إن الرؤية الصالحة هيّ نظرة متمردة، لا تحكمها أسوار، ولا يوقفها منطق، ولا تلتفت إلى الآراء العارية، المجردة من الإحساس والقناعة العاطفية، وظيفتها البحث عن الأدلة، والتحديق بها ملياً، ولا تنطق بالحكم إلا بالعدل. إن لجأ إليها طفل يشكو لسعة نحلة، ويطلب بحقد القصاص منها، تذهب مسرعة إلى منزل النحل للقبض على النحلة التي لسعت الطفل بهذه القسوة فلم تجدها في المملكة، قالت الملكة ستجدونها في حقول الورد. انطلقت الرؤية إلى هناك، لتجد النحلة تشرب الرحيق! سألتها أنتِ من فعل هذا؟! مؤشرة بسبابتها نحو منطقة متورمة، زرقاء مائلة إلى البنفسج محصورة بالدم، في جبهة الطفل! نعم.. قالت النحلة بكل هدوء، وهيّ منهمكة بنهم الرحيق، ثم أردفت وهيّ تمسح فمها بكمي قميصها، إنني فعلت ذلك عن عمد، فهنالك رجل عجوز يبلغ السبعين من العمر، توفيت زوجته منذ سنوات عدّة، وقد هجروه أبنائه، وليس هناك من يعتني به أو يهتم لصحته.
كنت أقف على زهرة يانعة كل مساء وأنا أحتسي ما قسمه الله لي من رزق وفير في حديقة هذا الرجل العجوز، التي كان يهتم بها أيما اهتمام، وكان يعامل كل زهرة في الحديقة، كما يعامل الأب ابنته المدللة! فقررت ذات يوم أن أراقب الرجل العجوز الطيب من داخل المنزل، فكان منزله مليئا بأنواع النباتات، في كل زاوية من المنزل كانت هناك أصص زرع، وعلى جانبها موضوعة صورة لزوجته! إنه رجل ذو قلب عاطفي، لا يستطيع العيش وحده، لقد أعاد بناء عائلته من النباتات! يهتم بزوجته في داخل المنزل، أما أولاده وبناته الذين هجروه، لم يستطع أن يخدع نفسه ويهتم بهم في الداخل! فكانت الحديقة الخارجية للمنزل تمثل هجرانهم له! وربما كانت تمتماته غير المفهومة، التي كان يتمتم بها وهو يغطي الجذور المكشوفة بالتراب والأسمدة، عتابات وتوبيخيات، وربما كانت أدعية وصلوات، لحفظهم من الشر السيء!
رحت أتجول في داخل المنزل، وأطلِع على تفاصيل هذا الغريب، فالغربة يا سادة ليست موطناً تسكنه بعيداً عن موطنك الأم! الغربة أن ترى وجهاً كنت تضمه إلى صدرك يوماً، تحول إلى سراب، تذهب نحوه وأنت تقطر شغفاً لأجل معانقته وضمه كالسابق، فتراه يهرب منك إلى البعيد، إلى حيث لا تدري إلى أين!
وقعت عيني على بعض الأوراق على الطاولة، منها ورقة من المقبرة التي دفنت فيها زوجته، يسألونه إن كان يرغب في مشاركة توحيد ألوان القبور مع ذوي المدفونين هناك، وفواتير من مديرية الماء والكهرباء والهاتف، والورقة الأخيرة كانت لمراجعة دكتور متخصص بأمراض القلب.
على ما يبدو رجلنا العجوز كان يعاني من خللٍ ما في قلبه، وأنه قد أجرى بعض التحليلات، وقد أوصى الدكتور بخط يده الجميل مراجعة العيادة بعد أسبوعين للتأكد من حالته الصحية، دونت عنوان الدكتور على جناحيَّ، وحلقت إلى عيادته، وصلت عند الغروب، كانت رحلة طويلة وشاقة، فكانت العيادة مغلقة وكان الجميع قد ذهبوا إلى منازلهم، دخلت من فتحة التهوية، بحثت عن ملف الرجل العجوز، وبعد عناء وجدته في الدرج الثالث، كان يعاني من ضعف في قلبه، وقد سجل الدكتور سلفاً العلاجات المناسبة في طبلة المريض، وحرص الدكتور على تناول العسل وشدد بذلك.
إنه يساعد على تنشيط القلب وانتشاله من رغوة الخمول التي يعاني منها، وبما أنني من العاملات الماهرات في صنع العسل، وعلى دراية كاملة على ما يحصل في سوق العسل، فيصادف اليوم الذي يبتاع فيه الرجل العجوز، شحة في غذاء العسل في تلك الفترة! رجعت إلى الخلية التي أقطن فيها، فرجوت الملكة أن تحث بقية العاملات على العمل لوقت متأخر، وبجهد أكبر لتوفير العسل بكمية أكبر للمرضى، فنحن مقبلين على قحط عسلي كبير، وبما إننا جنود الله سبحانه وأسبابه في شفاء الناس، فعلينا بذل ما بوسعنا لتلبية نداء الله على أكمل وجه. وعندما سمحت لنا الملكة بالعمل لساعات إضافية، هرعنا جميعاً لطاعة الأوامر الإلهية، وعندما كنا نعصر الزهرات، اقتحم هذا الطفل ذو الجبهة العالية المكان علينا، خُفن زميلاتي من شكله وتصرفاته الطفولية، ولاذ بعضهن بالفرار إلى المجهول، استغفلته ولسعته لسعة خفيفة فوق جبهته المستفزة.. ما هو إلا ثمن قليل يدفعه هذا الطفل، مقابل إنقاذ حياة إنسان! قالت النحلة للرؤية. فسكتت الرؤية وقالت للطفل هيا بنا يا بُني، لقد أقامت النحلة علينا الحجة، وقالت أيضاً يا بُني عليك أن تنظر إلى داخل النحلة، لترى العسل وتشهد بإنقاذ روح. عليك أن تتعلم الدرس وأن تنظر إلى داخل الغيمة وترى المطر وتشهد بإحياء الأرض الميتة من جديد، عليك أن تفهم الدرس وتنظر في داخل القرآن، لترى الله وتتعرف عليه وتعمل بوصيته، عليك أن تلتزم الدرس وتنظر في داخل الحياة، وتعلم ما فيها من مقادير متساوية من كل عسر ويسر.
اضافةتعليق
التعليقات