لو قُيّض للأرض أن تحكي، فماذا تقول؟
كل الموجودات على وجه البسيطة لها شعور وإحساس وبيان، وكلها بلا استثناء تسبّح الله عزوجل، لكنّ البشر لا تفقه تسبيحها، ولا تدرك ما يتجلى من خضوعها لخالقها ومبدعها.
والأرض ككوكب في هذه المجرة الكبيرة لها لسان ناطق مبين، حتى أنها وبمعيّة السماء أجابتا رب العزة حين وجّه كلامه إليهما:
(ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (١).
ولقد أبدعت يد القدرة في خلق الأرض، لتكون مهد البشر على اختلاف أصنافه وألوانه، فجعل منها بيئة حاضنة لحياة الناس، كي يعمروها بالصلاح والخير والسلام .
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لمَ لا نرى السلام يعمّ المعمورة قاطبة؟ لمَ سادت ثقافة القتل والعنف كل الأرجاء؟ ولمَ أُستبدلت لغة الحب بلغة الكراهية؟
أليست لغة الأرض هي لغة المحبة والتعايش والسلام؟ هل كتب عليها القدر _ منذ حادثة القتل الأولى _أن تكون مرتعا للقتل وموطنا للعنف والتصفيات؟
لقد تحوّلت قصة قابيل وهابيل ابني آدم عليه السلام إلى شعار وأيقونة تذكر الخلف بما فعل السلف، لتكون عبرة لبني البشر بأن الخيانة والغدر والقتل هي صفات الجبناء وضعاف النفوس، وإن الشرور وإن طال أمدها فمصيرها ومصير أصحابها إلى مزبلة التأريخ بجوار من أشعل وميض الشرارة الأولى لسفك الدماء.
هذه الحكاية الكونية (قصة قابيل وهابيل) لا زالت تتكرر بأشكال مختلفة وبأزمنة متباينة لكن نتيجتها واحدة ألا وهي سيادة منطق الغاب الذي يرتفع رصيده في غياب الوازع الأخلاقي والبعد عن الحق والفطرة السليمة..
إلا أن الجانب المضيء في الحكاية، أن هناك مصلحين في كل زمان، أدركوا لعبة الشيطان وما قد تجر طاعته من ويلات وأهوال على بني البشر.
ولعل نظرة منك أيها اللبيب لواقعنا، تبين لك في أي هاوية سقطت أمتنا، وفي أي مستنقع آسن تهاوت أخلاقياتنا.. أرضنا استوطنتها الحروب والمآسي والنزاعات، أينما نولّي وجوهنا نرى القتل والدمار والتشريد والتهجير، وكأن أقدارنا كتبت علينا أن نعيش بائسين مقهورين، حتى البلد السعيد الذي كان سعيدا في يوم ما، لم يعد أهله سعداء، هجروا الأهل والأوطان وتفرقوا في البلدان، طلبا للسلم والأمان.
وفي مقابل هذا الواقع المزري، هناك راية الإصلاح ترفعها أكف المصلحين، ولأننا أخذنا على عاتقنا أن نكون تحت خيمة الإصلاح قولا وفعلا، فكيف نستطيع أن نردم الفجوة الحاصلة بين ما تتطلبه لغة الأرض من حب وسلام وبين ما نعانيه نحن من عنف وقتل؟
نستطيع ردم الفجوة حين نغير قناعات فكرية تحولت إلى دين في عقول أصحابها، نحن بحاجة إلى قراءة واعية لواقعنا المعاش، بل قراءة مغايرة لما حاول الآخرون من ترسيخه في نفوسنا، عبر شحن فكري ممنهح يناهض الآخر إن لم يكن على ملتنا أو ليس من طائفتنا، فلا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، نحن بحاجة ماسة إلى هكذا قراءة تزيل الكراهية وكل موجبات العداوة من فضائنا الإجتماعي... إلى إرساء ثقافة الحوار والجدال بالتي هي أحسن.
على كل مصلح أن يبدأ بنفسه أولا، ومن ثم عليه أن يزرع في أولاده حب الغير، لأن ثقافة الكراهية لا تنتج واقع الألفة والمحبة والتسامح.
(لذلك نجد أن المجال الإسلامي المعاصر، يعيش هذه المحنة في صور ومستويات متعددة. فالأفكار والأيدلوجيات التي تلغي الآخر المختلف والمغاير، ولا تعترف بحقوقه، فإنها أوصلتنا في المحصلة النهائية إلى انتشار ظاهرة العنف والتطرف والإرهاب. والتي تعمل على معالجة خلافاتها مع الآخرين عن طريق استخدام القوة العارية. فتحسم اختلافاتها عن طريق ممارسة القهر والعنف)(٢).
فإذا أردنا أن نرسم خارطة جديدة تغيّر وجه الأرض، ليس أمامنا سوى إشاعة المحبة في النفوس، ونبذ الكراهية والقبول بالآخر فالاختلاف نعمة فلا نحولها إلى نقمة، ولنرخي أعنّتنا ولا نكوننّ كأحصنة جموحة يصعب قيادها.
فالحب واللين والرفق والرحمة والعطف هي ألحان سمفونية العيش المشترك تحت خيمة كوكبنا الجميل. وهي لغة الأرض، ومن ضاق عليه العيش في ظلال الحب فليتخذ غير الأرض مسكنا له ومقاما.. ففي الحب سعة وفي الحق سعة (وفي العدل سعة ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق).
اضافةتعليق
التعليقات