"التعليمُ للتفكير- الفنُّ للشعور" هذا ما قالهُ أندريه تاركوفيسكي حين سُئل عن معنى الفنِّ في حياتهِ، فالفنُّ آيةٌ عظيمةٌ أنزلت منذ ألف باءِ الكون على روحِ الإنسان قبل ماديّته؛ ليتسنّى لهُ التناغمُ مع جزئيات الحياة وليستدلّ بهِ كغيره إلى المحطة الأولى، حيثُ الذهابُ والإياب معاً على حدّ سواء، وهذا ما يفسّر الارتباط المتين بين الفنّ والفلسفة التي تختبر هي الأخرى النقطة الأولى للوجود، سابرة غور خرائطه المعقدة بفنِّ الفكرة وآفاقها الواسعة.
تتشظى هذه الكلمة المحدودة إلى معاني لا محدودة تقبعُّ بين حرفيها، فيمكنُ أن يُعرَّفَ الفَنُّ بأبسط شكلٍ على أنهُ لغةُ الحواسِ التي قد تكونُ ناطقةً أو بكماء، سلسةً بتعقيدٍ لذيذ ولكنّ الأهم أنها تنفذ في الروح كنفاذها في المادّة أو أعمق.
تُصنّفُ آيةُ الفنّ على أنهاُ الآيةُ الوحيدةُ التي يمكنُ لتاليها أن يرفعها إلى السماءِ أو يجعلها كهشيمِ تذروه الرياح حتى ولو كانت صرحاً مهولاً، فتلاوةُ الفنِّ يمكنُ أن تُختصر بنظرةٍ تحليلية تحكمها صرامةُ الأدواتِ على الأرجح، أو قد تكون حرفاً يجعلها كسحرِ موسى في القلوب أو يؤول بها إلى لعنةِ الفراعنة وهذا ما يسمى بالكتابة التشكيلية.
فلذلك تمحورت أهمية الكتابة عن الفن حول إدراكِ الكاتب لأهميّة ما يحتضنهُ حرفهُ من تعبيرٍ عن جوهر الفنّ وجودته، إضافةً لقدرتهِ الإبداعية في رسمِ ذلك الفن بلغةِ الحروف التي إن لم تكن توازيه فستُجحِفُ حقّه لا محالة.
فإن كانَ الفنُّ البشري يحملُ بين جزئياتهِ ثقوب سوداء قد يتيه الحرفُ في دوامتها، فماذا عن الفنِّ الإلهي؟، هل للحرفِ سبيلُ إلى معناه؟ وإن كان كذلك، فكيفَ للمحدود أن يصف المُطلق؟
انتهجت الأديان السماوية منذ سالف الأزمان نهجَ إيصالِ فكرةِ وجودِ الله عز وجل عن طريقِ وصف فنّهِ الكوني والملكوتي وصولاً إلى فنّهِ الروحي عن طريق الدعاء، وقدّم الإسلام النموذج الأوسع والأعمق للدعاء على حساب الأديان السالفة، وذلك لما نسجتهُ مدارسه الأصيلة من منهجية متكاملة لخُطى الدعاء، على لسان أهل البيت (ع) وهم سادّة الفن البلاغي، ويمكن الجزم بأن أعظم كاتب تشكيلي عرفتهُ البشرية منذ القدم ولن تعرف سواه هو الإمام زين العابدين علي بن الحسين(ع).
لا شكّ أن آل ياسين قد تشاركوا في اللوحة التشكيلية الأروع للدعاء ولكنّ مما لا شك فيه أيضاً أنهم تفردوا بأساليبهم الإبداعية للدعوة إلى لبِّ الإسلام، فكان أسلوب الإمام زين العابدين (ع) هي البلاغة التشكيلية في التعبير عن فنّ الخالق، الذي يعتبره أهل الأدب من أصعب الفنون البلاغية لغةً وجوهراً.
فقد تميّز زبور آل محمد الذي خطّه الإمام السجاد (ع) حرفاً حرفاً حتى كأنه أصبحَ كتاباً سماوياً تنزّل على قلبهِ، بأنّهُ لم يعبّر عن الفن الإلهي فحسب بل امتد ليستنطق الفنونَ البشرية من بلاغةٍ وخطابة وقيم أدبية، وحوّر المعاني المنبوذة عند البشر إلى جواهر يتحلّونَ بها عند استشعار كوامن أدعيته الكريمة، فقد صيّر التضرّعُ والاستكانة والتذللُّ والمهانة، عُدّة العابد عند دخوله في تجربة القراءة التشكيلية الفريدة من نوعها.
فلو تدبّرنا إحدى عباراته التي تضمنّها دعائهُ الثالث في الصحيفة السجادية، وهو صلاتهُ على حملةِ العرش، حيث ابتدأ به بتعديد الملائكة المقرّبين وأعمالهم ومراتبهم، فذكر جبرائيل وميكائيل وإسرافيل والروح الذي هو من أمر الله عز وجل، إلى أن قال:" وَخزّانِ الْمَطَرِ وَزَوَاجِرِ السَّحَابِ، وَالّذِي بِصَوْتِ زَجْرِهِ يُسْمَعُ زَجَلُ ألرُّعُوْدِ، وَإذَا سَبَحَتْ بِهِ حَفِيفَةُ السّحَـابِ الْتَمَعَتْ صَوَاعِقُ الْبُرُوقِ. وَمُشَيِّعِيْ الْثَلْجِ وَالْبَرَدِ. وَالْهَابِطِينَ مَعَ قَطْرِ الْمَطَر إَذَا نَزَلَ، وَالْقُوَّامِ عَلَى خَزَائِنِ الرّيَاحِ، وَالمُوَكَّلِينَ بِالجِبَالِ فَلا تَزُولُ".
فخلف تلك البلاغة معانٍ تحبس الأنفاس، إذ يصف الإمام السجاد (ع) الحوادث الكونية التي ألفتها البشرية حتى باتت من المسلّمات بالنسبة لها، ويبيّن وجود عمّال من الملائكة قد وكّل إليهم القيام بتلك الأمور، فتذكر الشروحات الخاصة بالصحيفة السجادية بأن زواجر السحاب هم الملائكة الذين يزجرون بالسحب الثقيلة حتى يُسمعَ دوّي الرعد على أثر زجرهم، وأنّ كل قطعة ثلج وقطرة مطر تنزلُ من السماء هي مسؤولية مَلكٍ مُعين، حتى الجبال لم تتمّيز بالثبات بذاتها بل لهل ملائكة قد أثقلوها بقوتهم حتى أصبحت راسية بأمر الله عز وجل "وكُلُّ شيء عندهُ بمقدار".
وما هذا الجزء إلا شيء يسيرٌ مما اشتملت عليهِ تلك الصحيفةُ النورانية من بيان وإعجاز، فالتعبير عن الفن الإلهي هو فنٌّ بحد ذاتهِ، فكيف إذا انساب على لسان إمام معصوم قد بَصُر بما لم يبصر به من هم دون علمهِ، فحمل إليهم تُرجمانه، فلا يُعكس الإبداع الإلهي إلا في مرآة قد نفضت عنها ملوثات الدهر وأصبحت على قَدَر ما تعكسه.
فيمكن القول بأن الكتابة التشكيلية اكتسبت أعظم أشكالها بين يدّي المعصوم، فلا يَسعُ فَنَّ الإله إلا أوعيتهم والتي فاضت بدورها على الأمّة بتلك الفيوضات الأخّاذة التي ما فتئت تفتح عيونهم إلى المعاني الإلهية العظيمة.
اضافةتعليق
التعليقات