كزهرة قُطِفتْ قبلَ أوانها، هي جميلةٌ، جميلةٌ جدا، لكنها تعيشُ غربةَ الياسمين، كانت ثلاثينية وكان حجابها من أجملِ ما يكون وأضفى عليها رونقاً يُشبه رونقَ الأزهارِ، تحملُ إحدى طفلتيها على صدرها والأخرى تمسك بها من يدها، التقيتُ بها صدفةً في عملي وأنا على يقينٍ تامٍ دوماً أن الصدفَ ماهي إلا ترتيبٌ إلهي، ملامحُها مريحةٌ، إبتسامتها لها معانٍ كثيرةٍ، تكلمنا لدقائقٍ معدودةٍ فأخبرتني أنها تعيشُ غربةَ الحرفِ والكلمةِ، تفتقدُ تراقصَ الحروفِ والكلماتِ والعبارات في فمها لروايةٍ أو لقصيدةٍ أو حتى لقصةٍ صغيرةٍ تقرؤها لصغيراتها قبلَ النومِ، هي تفتقد الكتاب.
ذبُلت تلكَ الياسمينةِ وأجبرتها الحياة أن تُضّيعُ أملا!.. وعلى حسبِ قولها (فقدته منذ زمن بعيد!)..
هي تضطربُ، تصرخُ، تُعاني، ويرتفعُ صوت اللا بداخلها لكن بصمتٍ وبملامحٍ أقربُ ما تميلُ إلى الرضا والقبول، لا أحدُ يسمعُ!، تلك الأم الياسمينة، تلك الأرض التي لطالما أعطت ومازالت، لا أحد يسمع ما تعانيه لأنه ببساطة صوت القلب لا يُسمع!.
كانَت هناك جذوةٌ صغيرةٌ من حلمٍ يابسٍ تقبعُ في زاويةٍ صغيرةٍ من صحراءِ قلبها أرادت أن تُصيبها ولو بقطرةٍ صغيرة من ذلك الأملِ المفقود، عله يحيا، عل شيئا من غرور الياسمين يُجبره على النهوضِ مرة أخرى فينمو ويزدهر لكن دون جدوى لم تستطعْ، كان هناك الكثير بداخلها لكن قلمها كان أخرساً، وكلماتها تلاشت مع كل تلك العواصف التي أصابت صحراء قلبها.
لم تكن تعرف القراءة والكتابة. لم يسمحوا لها أن تتعلم، لم يُعطوها حقاً أنزله الله لها في كتابه. قال تعالى: (اقرأ باسمِ ربك الذي خلق).
كانَ وما زال حلمها أن تقرأَ وتكتب، أن تعبثَ بالأوراقِ والأقلامِ والألوانِ.
أنْ يكونَ بجانبِها كتابٌ تقرأُ فيه قبل أن تنام ليلا، أن تُناقش القمرَ الذي يغفوْ كلَ ليلةٍ في أحضانٍ الياسمين المنسدلِ على نافذتها عن بطل رواية، وأَن تقصُ عليه أمنياتها المكتوبة في دفترٍ صغيرٍ.
كان حلمها أن تقرأ وتكتب، أن تلفظ صلاتها بالصورة الصحيحة، أن تقرأ القرآن في الفجر وتهديه لأمواتِها، أن تزورَ الأئمة الأطهار بزياراتهم في الأضرحة المقدسة،
أن تدل أحدهم على مكان ما عندما يصادفها في الطريق ويسألها، أن تقرأ ما كتبت لها أنا حين التقيتها، عن كيفية إعطاء الدواء لطفلتها الصغيرة دون أن أرسم لها قمراً وشمساً! كان جُل ما تتمناه تلك الياسمينة أن تقرأَ وتكتب، أن يكون لها حق التعليم في أمةٍ أولَ كلمة برسالة نبيها(اقرأ).
كانت موقنة تماما أن لها حق أن تتعلم، أن تقرأ، أن تكتب، وأن حرمانها من ذلك الحلم ماهو إلا ضرب أعمى للعادةِ والتقليد، همجيةٌ علا صوتها على العلمِ والمعرفة.
لطالما آمنت أن يكون لها حق التعلم، حق أن يكون لها كراسة خاصة تكتب فيها مايحلو لها أوحتى مذكرة صغيرة تحتفظ بها في حقيبتها لتدون فيها أعياد ميلاد ابنتيها!، كانت أمنياتها أبسط من أن تكون أمنية، أبسط من ذلك بكثير!
هي لم تطلبْ سوى أن يكون لها حقُ القراءةِ والكتابة، كانت تستطيع أن تتهجأَ كلَ مشاعرِ الكونِ حولها، لكنها لم تكن تعرف أن تكتب سطراً واحداً.
حُرمت أن يكون لها كُتباً وحقيبة، قلماً وجديلتين!.
لطالما حَلُمت بأنها تلك الصغيرة التي كانت تراها في أحلامها والتي تقف أمام الصف وشعاع الشمس متسلل من إحدى النوافذِ معانقاً عينيها البنيتين ومصافحاً طوق الياسمين في شعرِها، وهي ترنو لدرسها بحماس أمام الجميع والصف يردد معها، والمعلمة تلك المرأة الوقور بملامحٍ مريحة تأخذُ زاويةً من الصفِ تراقبهم مبتسمة كأنهم لوحة جميلة يلتقي فيها الماضي والحاضر بالمستقبل، لينتهي الدرس وتثني عليها معلمتها (بأحسنتِ ياوردتي) صفقوا لها، ويُصفقُ لها الجميع وتجلسُ هي في مقعدِها فخورة بنفسها تتصاعد أنفاسها مع أصوات الطلاب فرحاً وزهواً، لكن فجأة تنتبهُ من نومها لترى أنها في حلمها الذي لطالما حَلُمت به، كبرت هي ولم تكبر تلك الصغيرة في الحلم، للحلمِ بقيةٌ.
أيقظتها صغيرتها تريد منها أن تربط لها شعرها قبل ذهابها للمدرسة..
هي تقول: لو كنت فقط أقرأ وأكتب كنت اكتفيت!.
وأنا أقول: كان من حقها أن تقرأ وتكتب وتتعلم وتلتحق بالمدرسة والجامعة وتحقق ماتريد لأن التعليم حق وواجب ألزمنا به رسول الرحمة (صلى الله عليه وآله وسلم)..
هذه الياسمينة الجميلة ذكرتني بقول الشاعر محمود درويش الذي اقتبستُ منه عنوان مقالتي (للحلم بقية)، والذي يقول:
ولنا أحلامنا الصغرى كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة
لم نحلم بأشياء عصية
نحن أحياء وباقون.. وللحلمِ بقية.
اضافةتعليق
التعليقات