لطالما ردَّد والدي على مسامعنا منذ الصغر مقولته الشهيرة: (الناس أعداء ماجهلوا) بين الحين والآخر، حينها لم أستوعب ما المغزى الذي يريد إيصاله لنا وما إن كبرت وتوسعت مداركي وبدأتُ المسير بين أروقة الحياة ومعتركاتها ومايزال هذا القول كأنه محفور في ذاكرتي وأنا أرى المجتمع من حولي بات ضائعاً في أمواج التيه والابتعاد رويداً رويداً عن المبادىء والقيم وكأنه مسلوب الهوية والارادة ..
فشبابـه صاروا يتأثرون بمختلف الثقافات الدخيلة والركيكة ليفقدوا البوصلة التي يمضي بها قدماً .. متناسين أنَّ الانسان الناجح اليوم يجب أن يعي جيداً لخطواته وكيف يجب أن تكون مدروسة مضبوطة على مؤشر الهدف الواضح والحقيقي بعيداً عن منال الأمنيات والخيال، ومتى ماكان كذلك فلينطلق ولا يقف أبداً لأن من حوله قد يجهلون مايريد عمله ونتيجة جهلهم يطلقون الأحكام من هنا وهناك فيضعوا العثرات أمامه ..
الحياة فرصة تستحق الاغتنام ليفر بالعاقبة الحسنة
فأخذ العبرة ممن حولنا هو صمام الأمان لتلك الرحلة الشاقة فمولى الموحدين صلوات الله عليه بحكمته الشريفة يقول: (الناس اعداء ما جهلوا) يُبين الطبيعة البشرية للناس والتي نتيجة للجهل العام أو الجهل بموضوع ما يعادون كل مايصدر لمن حولهم من حركة أو فعل أو توجَّه وذلك لأسباب كثيرة منها الخوف من الفشل وعدم حب الغير والأنانية والتقاعس وعدم تحمل المسؤولية وربما طلباً لسهولة العيش والتعوَّد على الروتين والكسل بمستوى واحد دون تطور ..
وهنا يجب أن يدرك المرء خطورة الموقف لأنه ابن المجتمع الذي يحارب بجهله كل تطور وسعي وهو صاحب مسؤولية (فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) وعليه أنَّ يتسلح بقوة المعرفة والعلم وحمل المسؤولية لإحداث التغيير في مواجهة مجتمعه دون أن يلتفت لآراء المحبطين من حوله ..
ضرورة وجود الأسوة
بينما نحيا ببركة الوجود المقدس لسادات الورى فهم الأسوة لكل ما نود عمله بعد أن وضحوا لنا طرق الإستقامة التي يجب سلوكها ووضعوا أهم الارشادات التي توصلنا إلى الروح والرضوان في الدنيا والاخرة فـ رسولنا الأكرم (صلى الله عليه واله) عانى من جهل أُمته ما لم يعانيه نبي من قبله حتى قال "ماأوذي نبي مثل مااوذيت" وما إن صدع برسالة ربه وأعلن ثورته الإلهية على واقع الوثنية والشرك حتى انقلبت أوضاع حياته رأساً على عقب حيث لم يكن من السهل على أولئك الناس الذين ألفوا عبادة الأصنام أن يتخلوا عن عاداتهم وممارساتهم المتجذرة في حياتهم وعاداتهم الجاهلية كما أن الزعامات ترى في الرسالة الجديدة تهديداً لمصالحها فكانت رحلته مليئة بالأذى والإهانة لمقامه الشريف من الأقرباء قبل البعيدين حتى تضور جوعاً وحاولو خنقه من رقبته وأُغمي عليه صلوات الله عليه من شدة الضرب وعانى من السخرية والتحقير.
ولعل من أشد الأيام وأصعبها على رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو يوم الطائف حيث سافر إليها من مكة بعد أن تصاعدت عليه الضغوط وأحكم حوله المشركون الحصار والمناوءة وإستفردوا به حينما مات ناصره والمحامي عنه عمه أبو طالب (عليه السلام) وكذلك ماتت زوجته الحنون خديجة (عليها السلام) فأصبح مكشوفاً أمام أعدائه يحيط به الأذى من كل جانب لذلك سافر إلى الطائف وقصد هناك زعماء ثقيف أهم قبيلة في الطائف وكانوا ثلاثة أخوة: عبد ياليل ومسعود وحبيب فعرض عليهم الإسلام فرفضوا دعوته بجفاء وغلظة وقال له أحدهم: هو يمرط (أي يمزّق) ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك!
وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك ؟
وقال الثالث : والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك!
فلما يئس من قبولهم الإسلام طلب إليهم أن يجيروه ويحموه لكي يدعو الناس وهو آمن فرفضوا طلبه أيضاً.
فقال لهم أخيراً : إذا فعلتم فاكتموا علي لأنه كره أن تعلم قريش بما حصل فتشمت به وتزداد جرأة عليه.. فلم يجيبوه حتى لهذا الطلب البسيط بل أغروا سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به حتى إجتمع عليه الناس..
قال ابن عقبة : وقفوا له صفين على طريقه فلما مر رسول الله بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه وزاد سليمان التيمي : أنه كان إذا أذلقته الحجارة يقعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه ويقيمونه فإذا مشى رجموه بالحجارة وهم يضحكون..
قال ابن عقبة : فخلص منهم ورجلاه تسيلان دماً فعمد إلى حائط من حوائطهم (أي بستان) وأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: « اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبال ولكن عافيتك هي أوسع لي ..
هذا الدرس العظيم طريقة عملية للمطلب المراد إيصاله فلو تأملت بتفاصيل هذه الحادثة التي بلا شك لم تكن الوحيدة بل كانت سلسلة من العقبات والصعوبات التي واجهت نبينا الأكرم في دعوته لتغيير واصلاح أُمته لوجدتها سلاحاً عظيماً لابد للفرد العامل والحامل لراية التغيير أن يتسلح به وها أنا اليوم أسير على خطى والدي وألقنُ أولادي بأن يكونوا أقوى بمواجهة الصعوبات ويحرصوا على تحقيق أهدافهم فأنا أدرك أنَّ اللبنة الأولى للنجاح هي العائلة فهي مصدر القوة للفرد فمتى ماكان قوياً مدعوماً من أفراد أُسرته كان لمجتمعه أقوى وبذلك يكون مثال يُحتذى به !.
اضافةتعليق
التعليقات