إن سرّ تقدم الأمم والشعوب قديمًا وحديثًا هو مدىٰ تفضيلها للعلم والعلماء وتقديمهم علىٰ باقي شرائح المُجتمع، والاستزادة من نميرِ علومهم في شتىٰ مجالات الحياة.
ثم السيرُ علىٰ نهجهم واقتفاء آثارهم، ومطالعة سيرهم، حتىٰ بعدَ رحيلهم؛ فذاك مما يُذكي في النفس علو الهمّة ومكارمَ الأخلاق.
وكما روي عن الإمام أمير المؤمنين (صلواتُ اللّٰهِ عليه): «العلماءُ باقونَ ما بقيَ الدّهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوبِ موجودة».(١)
وليسَ كلُّ من علِمَ وتعلّمَ يصلحُ لإن يُقتفىٰ أثرهُ، بل إن هنالكَ من العلماء من يكونُ علمهُ وبالًا عليه كما أشارَ لذلكَ أيضًا (صلواتُ اللّٰهِ عليهِ): «وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّال وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّل، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حبالِ غُرُور، وَقَوْلِ زُور، فَذلِكَ مَيِّتُ الاْحْيَاءَ».(٢)
فاللازمُ هو تتبعُ الشخصيات التأريخية من العلماء والعظماء والقادة، ممن أسهموا في تقدم الأمم واختصار الطُرق للوصول إلىٰ أسمىٰ المقاصد وأنبل الغايات، وتحليلها تحليلًا دقيقًا، والوقوف علىٰ تلكَ النقاط الفيصلية في حياتهم والتي أوصلتهم إلىٰ ما وصلوا عليه.
ومن أولئكَ الذينَ ولجوا هذهِ الحياة، فأغنوها وأقنوها، وخرجوا منها وهي تتأسفُ عليهم؛ هو فقيدنا الراحل الإمام المجدد الثاني السيد محمد الشيرازي «رضوان اللّٰهِ عَليه».
فهو من ذلك البيت الذي بذخَ عطاءً، بدءًا من المجدد الشيرازي الكبير صاحبُ قضيّة التنباك والتي أسهمت في دحضِ قوات الإحتلال البريطاني وإخراجهم مدحورين من بلاد فارس، وكُتبت حوله كتب كثيرة منها (هدية الرازي إلىٰ المجدد الشيرازي) ومرورًا بالميرزا محمد تقي الشيرازي الذي فجرَ ثورة العشرين في العراق عام (١٩٢٠ م) شامخًا بشعبه العراقي الذي لا يتجاوز عدد نفوسهِ ال(٥) ملايين نسمة في وجه أعتىٰ إمبراطورية آنذاك.
والأسرة تتدخل مباشرةً في تكوين شخصية الفرد وصقلها، فكيفَ وهو من تلكَ الأسرة وارفة الظلال، والتي ما فتأت تحشدُ في نفوس أبنائها الزهدَ والورع والتقوىٰ، والسِّمات الإسلامية الفاضلة، وهمَ إصلاح الأمة والنهوض بواقعها المزري.
كانَ كلُ من عاشرَ السيد الراحل للحظةٍ واحدة أو لعدة سنوات يروي عنه أنه كان جليل القدر عالي المنزلة، جامعًا إلىٰ جانب علمه الغزير الأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن والسيرة العطرة وحب الناس وعلو الهمة ومكارم الأخلاق.
حاملًا علىٰ أكتافه هموم الإسلام والمسلمين، ممزوجًا بذلك الفكر المعطاء المختمر بالتجارب والمفعم بالنضج والنظرة الواقعية للأمور، المستلهمة من الكتاب والسنة، مثبتًا بذلك أنهما جاريان مدى الدهور وفي كل مجالٍ من مجالات الحياة الإنسانيّة.
كانَ (رحمة الله علیه) إبان وفاته بلحظات مليء بالحيوية والنشاط ممسكًا بالقلم يسطرُ أروعَ نموذجٍ للعالم العامل رغم مرضهِ والظروف التي كانت محيطةً بهِ وتنقلهِ من بلدٍ لآخر.
القلم والمنبر والقراءة هما أشد الركائز التي حثَّ عليها السيد الراحل والتي صرفَ عمره يؤلف ويكتب ويشجع الآخرين علىٰ الكتابة والتأليف؛ ولا تكاد ترى أحدًا ممن عاشرهُ للحظةٍ أو لسنين إلا وقد أوقدَ السيّد في قلبه حب القراءة والكتابة.
ومن شدة حرصه علىٰ عدم تضييع لحظات حياته، كانَ حتىٰ في كتابته ينتخب نوع القلم الذي تسهل معه الكتابة اختصارًا للوقت، حتى تعطلت بعضُ أصابع يديه، فراحَ يستعينُ بجهاز التسجيل ليحفظَ ما يريد كتابتهُ ثمَ بعدَ ذلك يكتبُ علىٰ الورق.
غادرَ الدنيا مخلفًا وراءه أكثرَ من ألف وثلاثمائة كتاب وكتيب وموسوعة، شملت الفقه والأصول والكلام والبلاغة والنحو وسائر العلوم الحوزوية من جهة، والسياسية والاقتصادية والاجتماع والنفس والحقوق والإدارة والقانون والبيئة والأخلاق والتأريخ والطب وإدارة الدولة الإسلامية وسائر العلوم الإنسانية المستحدثة من جهة أخرىٰ.
فكانَ حقًا (نادرةُ التأليف في التأريخ وسلطان المؤلفين)، اللقب الذي أطلقَهُ عليه الإتحاد العام للكُـتّاب العرب بدمشق_ الشام.(٣).
____
اضافةتعليق
التعليقات