لم يكلف الله سبحانه عباده إلا بما يرسم لهم السعادة والخير، وقد أكمل رسالاته بالإسلام وارتضاه لهم لأنه شمل كل ما هو نافع لهم وما يضمن لهم الحياة الطيبة..
"الإسلام: حضارة كونية، ورسالة حياة سماوية متكاملة، تهدف وهي قادرة على انتشال بني البشر من مآسيهم وحل جميع مشاكلهم العالقة والمستعصية، وحلحلة جميع الأزمات الإنسانية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها..
فالإسلام: دين وتمدن.. فكر ونظريات، وعمل وتطبيقات.. يسير بالإنسان خطوة بخطوة، ومع الإنسانية نقلة بنقلة، ليسير بهما إلى عالم كل ما فيه نور وسرور."
وقد خصص سماحة المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي سلطان المؤلفين من مؤلفاته ما تناول به قوانين الاسلام وما اختص به هذا الدين والذي جعله بعنوان: (بقايا حضارة الاسلام كما رأيت)
الذي يقول فيه: والقول بـ (إن ما يوجد في البلاد الآن هو من لوازم التكنولوجيا)، غير مستند إلى دليل، فإن التكنولوجيا توجب التقدم لا التأخر لأنها تزيد في قدرة الإنسان لا في ضعفه، وإنما سوء استغلالها بسبب الحضارة المادية هو الذي أوجب تأخير الإنسان، لا الإنسان المسلم فحسب، بل الإنسان الغربي أيضاً.
نعم صار الفرق بين المسلم والغربي، أن الغربي مستعمِر (بالكسر) والمسلم مستعمَر (بالفتح) فزادت مشاكل المسلمين إلى الضعف، ولو فرض – وهو شيء كائن بإذن الله تعالى – أن الحضارة الإسلامية سيطرت على العالم وتمكنت من توجيه التكنولوجيا لرأى الناس من الهدوء والسكينة والاطمئنان والخير والسعادة والرفاه ما لم يكونوا يحلمون بها حتى في تخطيطاتهم المالية.
ويذكر سماحة السيد بعض من مشاهداته في بضعة فصول نشير إلى بعض ما جاء فيها وأولها:
الحريات
1- كانت الزراعة حرة يزرع من يشاء ما يشاء، في أي موضع من الأرض كيف يشاء، ولذا كثرت الزراعة كثرة غريبة، ورخصت الأسعار رخصاً كبيراً.
2- كما كانت الصناعة حرة أيضاً وأقصد بها الصناعة البدائية التي شاهدتها، مثلاً: كان في كربلاء أربعمائة قسم من الصناعة أخذاً من صناعة الجلال والسروج والمراوح والحصران الخوصية، وانتهاءً إلى صناعة الأواني والأبواب والبريمزات النفطية والمصابيح وغير ذلك، كان ذلك بدون قيود أو شروط، أو ضرائب، أو ما أشبه.
3- كما إن التجارة والاكتساب والتجمع والسفر والإقامة والعمران كانت كلها حرة فكان العراقي يسافر إلى إيران ويرجع، والى الحج ويرجع، ولا جواز ولا ضرائب ولا ما أشبه مما هو معتاد في عالم اليوم إلا نادراً ندرة قليلة، حيث أخذت الحضارة المادية تدخل في البلاد الإسلامية.
4- كما أن حيازة المباحات كانت حرة إلى أبعد الحدود، وقد كان الإنسان يستولي على ما يشاء من الأرض لزراعته، أو عمارته وإني أذكر أن حياً من أحياء كربلاء بني قبل ما يقارب خمسين سنة ولم تأخذ الدولة على الأرض إلا بمعدل كل متر أربعة فلوس، وكان المتدينون يقولون إنه ظلم بحت.
5- أما الاستفادة من صيد الماء والهواء والصحراء فكانت مباحة للجميع.
6- كما أن الكتابة والخطابة كانتا حرتين، فلا قيود كما هو موجود الآن في كثير من بلاد الإسلام على المنابر، كما لا قيود كذلك على الكتب أو المجلات أو ما أشبه.
فهذه الحريات الواسعة كان الناس يتمتعون بها، وإذا ضغطت الدولة على مكان من هذه الحريات كان الناس يقفون صفاً واحداً أمام الحكومة حتى تنتهي الحكومة عن غيها.
الثقة بين الناس
لقد كان المجتمع يتمتع بثقة بعضهم ببعض في أرفع درجات الثقة، فكان الاقتراض مطلقاً إلا ما شذّ بدون سند، كما أن البيع والإجارة والرهن وسائر المعاملات كانت تجري كذلك حتى في معاملات الدور والبساتين وما أشبه من الأمور الكبار.
إن من غير الشك استحباب الإتقان وأخذ الورقة والكتابة كما في القرآن الحكيم والسنة المطهرة، لكن كانت الثقة الطاغية على المجتمع موجبة لترك هذا المستحب إلا ما شذّ وندر.
الأخوّة الإسلامية
وكانت الأخوة موجودة بمعناها الإسلامي الصحيح، فكنت تجد العربي والعجمي والهندي والأفغاني والخليجي وسائر المسلمين أخوة في كل شيء، متراصين في صفوف الجماعة ومتواجدين في المشاهد المشرفة بعضهم إلى جانب بعض، كما أن بعضهم كان يشتري من بعض ويبيع لبعض، ويشتري الأرض ويعمر الأرض ويتزوج من الآخرين ويزوج الآخرين وهم في كل شيء متساوون إلا بالتقوى وإلا بالكفاءة، فلم تكن مسألة القوميات والإقليميات واللونيات وما أشبه، ولم يكن لكلمة (الأجنبي) مفهوم إطلاقاً إلا بالنسبة إلى اليهود الذين كانوا يتواجدون بصورة قليلة ، ويضاف عليهم المسيحيون والصابئة ، حيث كان منهم فئة قليلة، هؤلاء كان يصطلح عليهم بالأجانب.
أما المسلمون فكانوا كلهم أخوة، كما أن الأجانب أيضاً كانوا يعيشون في المجتمع الإسلامي بكل حرية ورفاه وثقة متبادلة وما أشبه ومن الطبيعي أن القلة في المجتمع الكبير تتلون بلون المجتمع، وقد كانت هذه الأقليات تتمتع بعناية المسلمين حسب توصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في حديث عنه أنه قال: من آذى ذمياً فقد آذاني.
الرخص
وقد كان الرخص ضارباً بأجرانه في المجتمع، ولم يكن من الغلاء أثر إلا حين ابتدأت الحرب العالمية الثانية، فقد كان الرخص هو الطابع العام الدائم في المجتمع.
قلة المشاكل
وحيث كانت الحريات وقلة الموظفين والرضى بالمعيشة والإيمان والفضيلة لم تكن المشاكل إلا قليلة جداً.
فلم تكن مشاكل للناس من جهة الإقامة والتذكرة والهوية والجنسية والجواز ورخصة البناء ورخصة العمل ورخصة السفر ورخصة الإقامة.
ولم تكن منازعات بين الناس كالمنازعات بين الزوجين والشركاء والمتعاملين والجيران ومن إليهم إلا قليلاً.
وإني أذكر أنه لم تكن لهذه اللفظة (المشكلة) في المجتمع من أثر، وإذا وقعت مشكلة فرضاً كانت تحل حلاً يسيراً سريعاً.
قلة الأمراض
وذلك:
1ـ لوجود المناهج الصحية الإسلامية والسائدة بين المجتمع في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والزواج والنوم والنظافة والطهارة والاستحمام وغيرها.
2ـ ولأن الناس كانوا يجتنبون المواد الضارة في الأطعمة والأشربة أمثال الخمر ولحم الخنزير ولحم الميتة ونحوها.
3ـ ولأنه لم يكن قلق ولا فوضى مما يسبب الأمراض، ولم يكن غش في الأطعمة.
ولأسباب أخرى.. وقاية وعلاجاً..
أما الأمراض الدائمة فلم يكن لها أثر في المجتمع إلا نادراً ندرة إنسان واحد في كل عشرين ألف أو ثلاثين ألف، كما لم تكن من الأمراض الخبيثة أثر كالسرطان ونحوها.
القضاء
وقد كان القضاء الإسلامي سائداً نوعاً ما في البلاد.
الأمن
وقد كان الأمن مستتبّاً في البلاد بصورة مذهلة، ولم تكن هناك مباحث أو ما يقال له في الاصطلاح (بالسرِّى) بالشكل الموجود حالياً وكان يعد ذلك في ذلك الوقت من التجسس المحرم في الشريعة الإسلامية.
المجتمع
وكان المجتمع عائلة واحدة يرحم كبيرهم صغيرهم ويوقر صغيرهم كبيرهم، ويقضي بعضهم حوائج بعض.
وقد كان المجتمع مثالاً بارزاً لهذه القصة: فقد روي أنه التقى أمير من الأمراء بأحد الأئمة، فقال الخليفة للإمام: عظني؟ فقال له الإمام:
إن في المسلمين الأكبر والمساوي والأصغر منك عمراً فاجعل أكبرهم أباً وأصغرهم ابناً وأوسطهم أخاً، فبرّ أباك وصل أخاك وارحم ابنك.
قلة الجرائم
وكانت الجرائم قليلة جداً، فلا سرقة ولا اغتصاب للفتيات، ولا قتل ولا جرح، مع أن السلاح كان بيد الكثير من الناس وقد كان الزمان شبيه زمان وجود السيف، حيث كان الغالب يمتلكون السيف، ومع ذلك لم يكونوا يستعملون السيف للأغراض الإجرامية.
وقد كان كل إنسان يعرف أنه يجب أن يعيش بسلام، وأنه مسؤول محاسب أمام الله، وأن المجتمع ينظرون إليه باحترام، فإذا خالف موازين المجتمع لحقته عيون الازدراء، فكان خوف الله من الباطن وضغط المجتمع من الخارج يسببان عدم وقوع الجريمة.
الزواج
وكان الزواج المبكر هو السائد في المجتمع، والفتاة كانت تزوَّج في السنة الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة، كما أن الشاب كان يزوَج في السادسة عشرة والسابعة عشر والثامنة عشرة، فقد اتخذ المجتمع قوله:
)تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط).
وقوله: )من تزوج فقد أحرز نصف دينه – أو ثلثي دينه – فليتق الله في النصف الباقي( اتخذها أسوة وشعاراً.
الوفاء والصفاء
وقد كان المجتمع، مجتمع وفاء وصفاء – غالباً – فلا مكر ولا خداع ولا التواءات ولا ما أشبه، فقد كان المجتمع ـ في الطابع العام ـ متخذاً من قوله سبحانه:
(ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
وقوله تعالى: ]يخادعون الله وهو خادعهم[.
وقد كان الوفاء سائداً في المجتمع بعضهم يكون صديق بعض من أول عمره، أو من حين يصادقه إلى آخر عمره، فلا تقاطع ولا تدابر ولا تنازع، وكانوا يعتقدون أنه لو هجر بعضهم بعضاً فوق ثلاثة أيام لم تقبل صلاتهم وعباداتهم –كما ورد في الحديث-.
كما أن الصفاء كان سائداً في المجتمع، وكان لا يخفي بعضهم عن بعض شيئاً، ولا يلتوي معه في كلام أو عمل، ولذا لم يكن بعضهم يواجه الآخر بوجهين وبلسانين، وكان في أذهان الكل من حفر بئراً لأخيه وقع فيها.
الالتزام بالدين
فقد كان المجتمع ملتزماً بالدين في أصوله وفروعه وعقائده وأخلاقه وآدابه، فلم تكن تجد في كل المجتمع حتى رجلاً واحداً أو امرأة واحدة ترمى، أو يرمى بالإلحاد، كما لم يكن غالباً ظلم ظاهر من أرباب العمل بالنسبة إلى العمال، ولا من أصحاب المزارع بالنسبة إلى الفلاحين، فلم يكن يسمع من مشاكل العمال والفلاحين إلا نادراً، ولم يكن يسمع تارك صلاة ولا تارك صوم.
الرضى والقناعة
وأذكر أن شعار الجميع إلا من شذّ وندر كان الرضى والقناعة، وذلك يوجب من ناحية اطمئنان النفس، وفي الدعاء: (والرضى بالقضاء).
وليس معنى الرضى أن لا يسعى الإنسان، وإنما معناه أن يرضى بقدر سعيه، لا أن يمد رجله أكثر من ذلك، وقد قال سبحانه وتعالى: ]ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا[، وفي الأحاديث: ينظر الإنسان في دنياه إلى من هو دونه، وفي آخرته إلى من هو فوقه.
أما القناعة فهي كنـز لا ينفد، إذ توجب عدم استغلال الغني مال الفقير لأجل الجشع والحرص، ولا طمع الفقير في مال الغني.
وفي الحال الحاضر يشاهد أن التعب النفسي والجسدي ومد اليد إلى مال الناس بالاحتكار والربا والاستغلال والسرقة والالتواء وما أشبه تحت مختلف العناوين البراقة أحياناً، والباهتة أحياناً لا يكون إلا لأن الرضى والقناعة ذهبا عن المجتمع.
الاكتفاء الذاتي
وكان الاكتفاء الذاتي سائداً في البلاد، فالإنتاج كان من نفس البلاد إلا ما شذّ وندر، فكانت الملابس والمآكل والمشارب وحتى المراكب من إنتاج نفس الوطن، حيث أن الدواب كانت هي المركب المنتشر وكانت هي سبب نقل البضائع والفواكه وغير ذلك إلا في بعض الأسفار لبعض الناس.
ومن الواضح أن الإنتاج الوطني يوجب أولاً: الرخص، وثانياً: تشغيل الأيادي العاملة، وثالثاً: عدم اضطراب السوق، بأن يرتفع الشيء مرّة وينخفض مرّة فيقع الغلاء مرّة والرخص مرّة كما هو طابع عالم اليوم خصوصاً في العالم الإسلامي.
البساطة
وقد كان الطابع العام للناس: البساطة في كل شؤونهم الزراعية والصناعية والعبادية والعائلية وغيرها.. فمأكلهم بسيط وملبسهم بسيط ومسكنهم بسيط ومركبهم بسيط، وحتى المساجد كانت تفرش بالحصران ويصلّي الناس على تلك الحصران شتاءً وصيفاً، وكان الشعار العام:
(إن الله لا يحب المتكلفين(.
و)شر الإخوان من تكلف له(.
العمل
وكان غالب الناس رجالاً ونساءً يعملون، فلم يكن للبطالة مفهوم، فالرجال كانوا يشتغلون في الزراعة والعمارة والتجارة والكسب والصناعة وفي البساتين وحيازة المباحات كالسمك والأعشاب والأعواد وما أشبه، كما أن النساء كن يشتغلن ـ بالإضافة إلى إدارة أمور العائلة والطبخ والكنس والغسل وما أشبه ـ بتربية الدواجن والغزل والنسج ومساعدة الرجال في كسبهم.
ولم تكن تجد أثراً للبطالة بين الناس لأن الجميع كانوا يشتغلون، حيث الحريات الواسعة، وحيث سهولة شروط العمل، وحتى الأطفال كانوا يشتغلون مع آبائهم ومع أمهاتهم ولم تكن هنالك طبقة خاصة من الشباب، أو الأطفال، لأن الكل كانوا طبقة واحدة متعاونة.
النظام
وكان كثير من الأمور في المجتمع منتظماً، اتباعاً لقول علي عليه السلام: نظم أمركم وكانت مجموعة أمور تنظم أوقات الناس وشؤونهم، كالصلوات في الأوقات الثلاث صباحاً، وظهراً، ومغرباً، وكشهر رمضان، وأشهر الحج، ومحرم وما أشبه بالنسبة إلى الشهور...
الثقافة
وكانت الثقافة مرتفعة بين الناس، صحيح إن الثقافة بمعنى القراءة والكتابة، أو ما أشبه لم تكن بهذا المستوى الفعلي، لكن الثقافة بمجموعها عقيدة وأخلاقاً وشريعةً وتاريخاً وما أشبه كانت رفيعة، وكانت تساعد على ذلك الكتاتيب الموجودة الرخيصة وفي متناول الأيدي...
وكان يعتقد الجميع أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة حتى إني أذكر أن بعض العلماء كان يفتي بأن الولد لا يحق له أن يتزوج والبنت لا يحق لها أن تتزوج إلا أن يعلما أصول الدين عن الأدلة ولو البسيطة منها.
النظافة
وكانت النظافة هي الطابع العام في المجتمع بسبب الواجبات والمستحبات الإسلامية كالأغسال الواجبة والمستحبة والوضوءات الواجبة والمستحبة، وكنس البيوت والأفنية، واستعمال المطهرات والمنظفات، وكانت الحمامات العامة تساعد في النظافة، فقد كان الشعار العام للناس (النظافة من الإيمان) وكذلك كان عمال البلدية ينظفون الشوارع ويكنسونها، صحيح أن قلة الماء كانت سبباً لعدم التقدم النظافي الذي نراه هذا اليوم، لكنه من الصحيح أيضاً إن الالتزام بأحكام الإسلام عند عامة الناس كان يسبِّب النظافة العمومية، سواء في الجسد أو في الملابس أو في الدكاكين أو غيرها..
المرأة
وكانت المرأة شريكة للرجل في كل الميادين (باستثناء الإمارة والقضاء والجيش).
وكانت تزاول كل الأعمال مع الحشمة والحجاب والحياء والعفة، فكانت تشارك الرجل في الأسفار، والزيارات، والحج، وصلوات الجماعات، ومجالس الوعظ والإرشاد، وكذلك في سائر الاجتماعات.
هذه بعض مشاهدات سماحة المرجع الراحل منذ عدة سنين وبيانه لمنهج الاسلام الذي غاب عن المجتمع، سطرها في عدة سطور محاولاً ارجاع المجتمع والفاته إلى ماكان عليه والى ما اعطاه الاسلام من خير وأمان..
اضافةتعليق
التعليقات