احتلت قضيّة الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه موقعاً بارزاً في الفكر والتراث الإسلاميّ، ولها أولوية في حياة المؤمنين والمنتظرين فهناك مجمل يتفق عليه المسلمون وهو: إن أحداً من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وعترته، وبالتحديد من ولد فاطمة صلوات الله وسلامه عليها، يظهر في آخر الزمان، لإقامة دولة الحق والعدل على مستوى العالم؛ إلا بعض الجهلاء من المشككين من الذين يضعون أصابعهم في آذانهم، عن اتباع الحق. وهو خليفة الله على الأرض، وأراد الله به أن يظهر الحق ولو كره المشركون.
وإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان قد بشّر أمته بمجيء رجل من أهل بيته يكون به ختام الدنيا، حيث يقيم حضارة العدل والحقّ، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً. وتلك القضية السماوية لا تخص مذهب معين ولا طائفة معينة؛ فعند الاطلاع على المصادر الإسلاميّة لمختلف المذاهب نلاحظ حضوراً لقضيّة الإمام المهدي، والروايات موجودة في مختلف كتب المسلمين. فهناك ضرورة حتمية لوجود الأمام في حياتنا.
يقول الأمام الشيرازي (قدس سره الشريف):
إن القرآن الكريم يثبت أدواراً في إطار عالم الطبيعة للأشياء، كما يثبت أدواراً للأشخاص. هنالك أشياء في هذا العالم لها دور. وهناك أشخاص في هذا العالم لهم دور؛ نمثل لهما بمثالين:
المثال الأول للأشياء: نسأل: من هو الشافي؟ ويأتينا الجواب من القرآن الكريم أن الله تعالى هو الشافي؛ ﴿وإذا مرضت فهو يشفين﴾حدثني أحد العلماء أنه كان يوجد في مدينة إصفهان طبيب معروف يسجّل أسماء مراجعيه من المرضى في ورقة عنده بعد أن يكتب لهم الوصفة الطبية، لكي يدعو لهم في صلاة الليل، وكان يقول: إنني أعتقد أن الأدوية عوامل ظاهرية وأن الشفاء حقاً بيد الله تعالى، ولذلك أكتب أسماء المرضى الذين يراجعونني كي أدعو لهم في صلاة الليل وأطلب شفاءهم من الله تعالى، فهو الشافي وما الأطباء والأدوية إلا أسباب ظاهرية.
ولكننا نلاحظ أن القرآن الكريم يثبت من جهة أخرى دور الشفاء لأشياء في هذا العالم. يقول الله تعالى عن العسل: (فيه شفاء للناس) هذا مع أن العسل ما هو إلا جماد يخرج من بطن حيوان، ولكن الله تعالى شاء أن يجعل فيه شفاءً للناس.
من هذا المنطلق يجب أن نفهم دور الأمام وضرورة تواجده في كل زمان ولكل فئة من الفئات من المجتمع وأن نستحضره في كل جوانب الحياة وندعو له ونطلب من الله الفرج توسلاً به وتقربا إلى الله.
كما أن الكثير من الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تؤكد على أهمية انتظار الفرج من أجل تأصيل وإدامة الرابط الروحي والشعوري المؤمن بمهدي آل محمد عليهم السلام وبقيمته وعظمة الدور الذي سيؤديه، وهذا الشعور لا يمكن له أن يتقدم ويتطور مالم يكن شعوراً لانتظار شخص موجود فعلاً بشرت به الروايات والأدبيات.
حتى أن أهل البيت كانوا من المنتظرين أيضاً فقد روى الصدوق عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: "سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول: لما أنشدت مولاي الرضا عليه السلام قصيدتي التي أولها:
مدارسُ آياتٍ خلت من تلاوةٍ/ ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصاتِ
فلما انتهيتُ إلى قولي:
خروجُ إمامٍ لامحالةَ خارجٌ/ يقومُ على اسم الله بالبركاتِ
يُميّزُ فينا كلَّ حقٍّ وباطلٍ/ ويجزي على النعماء والنقماتِ.
بكى الإمام الرضا عليه السلام بكاءً شديداً، ثم رفع رأسه إليّ فقال لي:
- يا خزاعيّ، نطق روح القدس على لسانك في هذين البيتين فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم؟ فقلت:
- لا يا مولاي، إلا أنّي سمعت بخروج إمام منكم يطهر الأرض من الفساد ويملؤها عدلاً كما ملئت جورا.. فقال:
- يا دعبل، الإمام بعدي محمد إبني، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورا.. وأما (متى) فإخبار عن الوقت، فقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه عليهم السلام أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قيل له : يارسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال:
- مثله مثل الساعة التي (لا يجلّيها لوقتها إلّا هو ثقلت في السماوات والأرض ولا تأتيكم إلّا بغتة.
وإن لكل جيل لابد له من هادٍ، يتكفل منصب الهداية ولا تخلوا من وجود هادٍ، قال اللّه تبارك وتعالى: (يومَ ندعُو كُلّ أُناسٍ بِأمامِهم). إذن هناك ضرورة حتمية لوجود إمام لهذا الزمان وهو يتكفل منصب الهداية.
وقد ذُكرت في أحاديث كثيرة ومسندة للنبي محمد (صلَ الله عليه وآله) ومنها قولهُ: ”إني تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض“. الحديث واضح الدلالة، لا يوجد زمن فيه القرآن إلا وفيه واحد من عترة أهل بيت النبي، وهذا لا ينطبق إلا عن الاعتقاد بوجود المهدي المنتظر «عجل الله تعالى فرجه الشريف». هذه قرينة تدل على وجود الإمام، وضرورة تواجده في الأمة، وتدل كذلك على أن كل جيل له إمام.
فكما للأمام ضرورة حتمية في حياتنا؛ هناك ضرورة لتجديد العهد والولاء له يومياً وإنتظار فرجه الشريف وتنبيه الغالفين.
فمن آثار الإمام الحجة على أهلِ الأرض هو متابعته لأنصاره وكيف هي أوضاعهم وأحوالهم فيقوّم مسارهم ويبارك خطواتهم لتهيئتهم لإقامة دولة العدل، وكما ورد عن الامام الكاظم عليه السلام: (يغيب عن أبصار الناس شخصه ولا يغيب عن قلوب المؤمنين ذكره).
فالإنسان الرسالي عليه أن يعيش هذه الرقابة وكأنه يضع نفسه في قاعة امتحان ويعلم أنّ نتيجة الرقابة إما النجاح أو الفشل فالذي ينجح يزداد قربا من الإمام والعكس صحيح. أما كيف يكون ناجحا فهو عن طريق بناء ذاته ومحاسبة النفس فإن لم يكن الإنسان امرا على نفسه فسيكون مأمورا لها، كأن يراجع المكلف نفسه في آخر النهار من كل يوم في درجة خشوعه في الصلاة الواجبة وهل كانت له همّة في أداء صلاة مستحبة، هذا على الصعيد الشخصي.
أما على الصعيد الإجتماعي، ماذا قدّم من تذكرة وتوعية لمن يشاركه العيش من أهل أو أولاد وما هو عطاؤه للمجتمع بشكل عام؛ والتجديد في طريقة التثقيف لقضية الأمام السماوية؛ فنحن كما نلاحظ في السنوات الأخيرة زيادة المشككين ممن يحاولوا طمس هوية الأمام والتنكيل بها، ودفعها بمنحنى آخر، والتَململ من طول انتظار الفرج.
فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: "انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله؛ فإن أحب الأعمال إلى الله انتظار الفرج".
أما تحديد وقت معين للأمام هو خرافة. نعم نحن نشعر بألم فراق الأمام وإن من موجبات همنا وغمنا الأكيد بعد الإمام عنا فهو الذي (أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء). ولكن يجب علينا التثقيف للقضية المهدوية بصورة صحيحة والعمل على ايصال مفهومها بالتجديد بما يتطلبه المجتمع من ايضاح للرسالة المهدوية. والتثقيف ينطلق من محورين:
المحوز الأول: الفردي، فيشمل بناء الأنسان فكريا لتحقيق الثبات على الولاية والتمسك بالعقيدة المهدوية في زمن التشكيكات والمشككين.
والمحور الثاني: دوره في نقل رسالة الأنتظار وأهدافها إلى أهل بيته ثم المجتمع. كي لا أجعل أهل بيتي والموالين يتخبطون حول الأفكار السوداوية والمشوهة عن تلك الرسالة العظيمة ويقع في تيه المعلومات المغلوطة.
ونحن نشهد بين فترة وأخرى ظهور أشخاص أو مجموعات عن طريق التواصل الأجتماعي يصفون أنفسهم بأنهم من أصحاب الأمام بل البعض الآخر تمادى في وصف نفسه ونصب نفسه إماماً. وأصبح الشغل الشاغل لكثير من الناس هو علامات عصر الظهور؛ حيث تراهم يبحثون عن بعض النصوص الروائيّة لتفسير أيّ حدث من الأحداث الواقعة.
وبالتالي يدّعون أن هذا العصر هو عصر الظهور، أو إن عصر الظهور قد اقترب!، مع إن الأمر بيد الله سبحانه وتعالى، ولا يدري الإنسان أن ظهور الإمام الموعود هل هو في هذا العصر أو في عصر آخر، في هذا القرن أو بعد قرون، وهكذا وظف البعض القضية المهدوية بإتجاه خاطئ بينما يجب الاستفادة من الثقافة المهدويّة بالاتجاه الإيجابيّ والذي يفيد الأمة والذي هو: إن جوهر القضية المهدويّة هو التطلّع لدور الأمّة الرياديّ، وإقامة الحقّ والعدل في ربوع الأمّة والعالم.
وأما على الصعيد الجماهيري فثقافة تجديد الإنتظار تعني مخاطبة المساحات العريضة من البشر ويمكننا ذلك من خلال:
1. الأستفادة من الفضائيات والانترنت والتي أصبح أثرها كبيرا جدا على حياة الناس وفي كل مكان.
2. نشر الكتب والمجلات والصحف المتخصصة في هذا المجال وباللغات المختلفة.
3. اسناد ودعم مراكز البحث والمؤسسات التي تروّج لثقافة الانتظار بعقد الندوات والمؤتمرات الدورية.
4. الإنفتاح على الطوائف الأسلامية الأخرى وبقية الأديان غير الإسلامية والسعي لمحاورتها بخصوص العقيدة المهدوية.
من هنا يتضح أن ضرورة وجود الامام في كل زمان ضرورة حتمية لكل البشر، باختلاف مكوناتهم وأطيافهم فالإمام لا يخرج من أجل اصلاح شيعي أو اسلامي؛ بل هي قضية تتحدث عن اصلاح كوني، وهي رسالة سماوية أراد الله أخفاءها إلى يومها الموعود.
من هنا وجب علينا تجديد وتعزيز الفكرة المهدويّة والأمل في نفوس الناس لأنهم يواجهون أمواجاً من الظلم، وعصوراً من الاستبداد والقمع، وجولات لانتصار الباطل والفساد، لكن الإنسان المؤمن يجب أن يتمسّك بالأمل مهما أدلهمت الظروف وحلكت.
وإن القضيّة المهدويّة تريد أن تجعل الأمل ثابتاً في نفس الإنسان المؤمن وفي بناء الكفاءة استعداداً للمشاركة في بناء الواقع والمستقبل الموعود؛ فأصبح لزاماً على المؤمن الذي ينتظر أن يتطلّع لإزالة الظلم والجور عنها، أن يهيّأ نفسه بالكفاءة والقدرات ليكون جزءاً من عمليّة تحقيق هذا الوعد الإلهيّ. وأن نجعل من وجود الأمام في حياتنا المعنوية نوراً يضيء العتمة في هذا العالم فالسبيل إلى رضا الله هو رضا الإمام المنتظر فهو الملاذ لنا في كل الشؤون والقضايا. بعد أن جعله الله لنا مصدراً للدفء والنور. وحجة علينا في دار الدنيا.
اضافةتعليق
التعليقات