من أجل تنمية نابعة من المجتمع ومحققة لأهدافه لابد من البحث عن هوية المجتمع الثقافية، ولقد طرحت قضية الهوية الثقافية العربية وتفاعلها مع الهويات الثقافية الأخرى كثيرا على ساحة الفكر العربي المعاصر، وفي كل مرحلة من التاريخ عندما تطرح أمة قضية هويتها الثقافية وعلاقتها بثقافة الآخرين.
فذلك يعني أن هناك حوارا حيويا داخليا بغرض تحديد كل من (الأنا) و(الآخر) بشكل واضح ومن ثم تحديد التفاعل بين (الأنا) و(الآخر) ومدى حدود التداخل والاختلاف أو التطابق، هذا الحوار هدفه الوصول إلى توافق ثقافي ناجح في المجتمع، ومن ثم التوافق تنموي صحيح يقود الأمة إلى النهوض ويساعد في حل أزمة الأمة الفكرية والتنموية والحضارية.
ولقد أثار هذا النقاش لدى الروس في القرن الثامن عشر عندما بدأ الاحتكاك بين الحضارة الغربية الصناعية وحضارة روسيا القيصرية التي تدمج بين الزراعة والاقطاعية وأدى هذا الاحتكاك غير المتوازن إلى إثارة نقاش حاد بين المثقفين الروس في ذلك الوقت واستمر لفترة طويلة حول خصوصية وأصالة الثقافة السلافية في مواجهة الروح الكونية والشمولية التي يمثلها الغرب وقد انقسم المثقفون إما الى شاجب للنزعة الأوروبية كلياً أو إلى قابل بتلك النزعة. وقسم تركوا الأمر بين أمرين.
فالرأي الأول لهذه النزعة أصبحت أوربا بالنسبة له مصدر للأفكار المخربة التي تنتصر للعقل على حساب كلية الكائن الانساني ومبادئه فيصبح انسان آلي تحركه الاموال والأسواق، وإن الأخلاق في المجتمع المالي أخلاق نفعية مؤقتة، صديق اليوم عدو غدا، أما من رضي بهذه الثقافة على أنها نهضة فكرية وصناعية جديدة فقد أشاد باهتمامها بالعلم والمعرفة والعمل بالتنظيم وإن كان ذلك كله قاعدة لأي تطور اجتماعي ولابد من وجودها في العمل وضمن توصيات المشرع الاسلامي، لكن أصحاب هذه النظرية جعلوها للغرب وعلقوا عليها وسام الثقة عند الغرب.
وهناك فئة ثالثة من المفكرين الاسلامين قالوا ما المانع لو حصل التطوير والنهضة الثقافية في مجتمع ديني، توفرت فيه شروط العمل والتفاعل الثقافي الأخلاقي سيكون مجتمع فريد لا يقاس في كل الدول.
هنا بدأت المعركة بين المثقف الديني والمثقف الغربي، فالمثقف الغربي يرى أنه يملك الخبرة الحديثة والتنقية الاقتصادية والقانونية، والتنظيم في ادارة المجتمع، وبين من يجد نفسه يتطور لكن في دائرة مقيدة فالضوابط التي توضع على المثقف الديني غير تلك الضوابط التي تقع على المثقف الغربي، فبقي منقطعا عن المسيرة الثقافية السابقة وقد يكون المجتمع هو من دفعه لهذه الهاوية.
وبينما نشهد اليوم نهضة قوية وبارزة للمثقف الديني وخرج بنظريات اقتصادية غريبة وحديثة وإن كان أصلها في كتاب الله وسنته لكن دوره كان في معاصرة الوقت وتحديثه، فكاتب اقتصادنا للسيد محمد باقر الصدر في بداية الستينيات في القرن العشرين، يتناول الاقتصاد الإسلامي، ولا يزال الكتاب يشكل مرجعاً للكثير من قواعد البنوك الإسلامية، حيث إنه كتاب يتحدث عن الاقتصاد الإسلامي ومزاياه ويتكلم عن أضرار الاقتصاديات الأخرى مثل الاشتراكية والرأسمالية وغيرها ويقارن بينها.
يطرح الصدر في كتابه (اقتصادنا) المادية التاريخية وقوانين الديالكتيك، والمراحل الخمس للمجتمع الفكري الماركسي ونقد الفكر الاقتصادي الماركسي، ويختم الكتاب بتناول الهيكل العام للاقتصاد الإسلامي، يتكون الكتاب من ثلاثة فصول: الفصل الأول: دراسة المذهب الماركسي المتمثل في المادية التاريخية، وطرح الأسس الفكرية للمذهب، ثم ينقده.
لدينا أيضا سلطان المؤلفين حيث قام السيد محمد حسيني الشيرازي قدس سره بتأليف موسوعة في (الفقه) وفي ثنايا موسوعة الفقه طرح كتباً تميز بها لطرحها لأول مرة ألا وهي (فقه الحقوق)، (فقه القانون)، (فقه السياسة) (فقه الاقتصاد)، (فقه الاجتماع)، (فقه الدولة الإسلامية) وكتب أخرى بشكل عام، ألف كتاب (القواعد الفقهية) وتطرق إلى بعض القواعد التي لم يتطرق لها غيره.
وقد تطرقت موسوعته الفقهية للعديد من المباحث والعلوم المستجدة وتميزت بتفصيلها للمباحث المذكورة وبيان كثير من الأشباه والنظائر..
كما أظهر الدقة في البحث من خلال كتابه (فقه البيع) والذي كان من خمسة مجلدات و(فقه المكاسب المحرمة) وكان من جزأين و(فقه الخيارات) من جزأين و(فقه التجارة) و(كتاب الأصول) من ثمانية أجزاء، وقد لوحظت القوة العلمية فيه من خلال بحثه خارج الفقه والأصول، الذي تميز به بفسح المجال الواسع لطرح الإشكالات العلمية في الدرس والإجابة عليها، بما يقنع الطرف المقابل برحابة صدر.
حيث كتب أكثر من ألف كتاب، في الدين والسياسة والتاريخ والاجتماع والاقتصاد والقرآن واللغة العربية وآدابها، ومواضيع أخرى، واشتهر بتأليفه موسوعة الفقه، وقد تجاوزت عدد مجلداتها مائة وخمسين مجلداً، مما يجعلها أكبر موسوعة فقهية لدى الشيعة.
وللحديث صلة فهناك الكثير من عظماء العرب وقفوا عند أبناء قبليتهم بينما رسائلهم وكتبهم باتت منهاجا في الغرب، فهذه الكتب جعلها الغرب منهاج لتطوير الاخر وتقديس الأنا، لكن العرب جعلها على رف المكتبة من دون تدقيق أو قراءة، لذلك عندما يتحدث الغرب يسمع لتلك النصائح والأفكار وينسى ما في بطون الكتب العربية، وعندما يقارن الغرب بالعرب يصفهم بملوك التطور والحداثة، والعرب جاهلين، بينما الغرب يجلس لساعات طويلة وهو يترجم أقوال وشروحات نهج البلاغة ليعرف الصناعة والزراعة وادارة البلاد، ومع هذا تجد في كل عصر هذه النظريات التي تدفع الغرب وتضرب العرب.
ومنذ ذلك الزمن طفق أهل الفكر من المثقفين العرب يدخلون في حوار كبير ومازالوا يطرحون موضوعات (الهوية الثقافية.. الغزو الثقافي.. الأمن الثقافي) إلى آخر المصطلحات العديدة التي تصب في هذا الاطار، الملفت للنظر أن المساهمين في طرح هكذا قضايا هم إلى الآن لا يعرفون أن عملية التنمية الاجتماعية وتزويد التفاعل الثقافي بين الأنا والآخر هي عملية أخلاقية غير عن كونها عملية اقتصادية، لذلك تجد التنمية الثقافية في هكذا مجتمعات عملية شاقة وعسيرة ومكلفة أيضا ولكنها من أهم المهمات التي يجب التصدي لها لخلق تنمية حقيقية نابعة من مجتمع ناجح أخلاقيا وفكريا.
اضافةتعليق
التعليقات