حرك الراهب أجراس الكاتدرائية لتدوي طنطنتها سالكة سكك الحي مخترقة نوافذه و جدرانه بتدافع لافت، راح يتنصت ككل يوم مصغيا جيدا هذه المرة عساه يحقق الأمنية التي طالما هامت به في وهاد الحيرة و الإستفهام دون جدوى.
غمغم لنفسه: الناقوس يتكلم أعرف ذلك... ولكن ليتني أفهم ما يقول!!
كانت طرق المدينة الملتوية عاجة بالمارة، صاخبة كنخيلها الباسق في يوم عاصف، توسطت الشمس كبد السماء لتنساب أشعتها الذهبية عبر الأشجار مخترقة الأوراق، لتتقطع و تتناثر على صفحات الأرض كأنجم نهارية غامزة.
في هذه الأثناء راح يعبر الأزقة الرملية رجلان وصلت مسامعهما أصوات الدير.
توقف أحدهما و هو يحد النظر ناحية الكاتدرائية ليتبعه الآخر بسكونه.
راح يصيخ السمع ويتمعن كنابغة فك رموز شيفرة إلكترونية عالمية مستعصية. قال لصاحبه: إسمع! إسمع!
نظر حارث إليه مستغربا و هو يحاول الإستماع لكل ما حوله إلا أنه لم يظفر بمهم سوى همهمة الناس و صياح الباعة المتجولين و هم يحاولون عرض بضاعتهم قبل حلول المساء.
قال الرجل الأول عارضا بينة ظلت مخبأة في طيات ذهنه و عقله :
هل تسمع؟!
الناقوس يتكلم!!
فغر الحارث فاه مشدوها محاولا الإستماع بدقة و تفحص أكثر هذه المرة دون جدوى.
نظر الرجل لسحنة رفيقه المستغربة و سأله: هل تعلم ماذا يقول؟؟
تمايل برأسه يمنة و يسرة و هو يزم شفتيه معلنا جهله بما يدور .
استأنف الرجل و هو يخترق سحب السماء بحد نظراته الثاقبة؛ يَقُولُ الناقوس: سُبْحَانَ اللَهِ حَقَّاً حَقَّاً، إنَ المَوْلَي صَمَدٌ يَبْقَي، يَحْلُمُ عَنَّا رِفْقَاً رِفْقَاً، لَوْلاَ حِلْمُهُ كُنَّا نَشْقَي.
حَقَّاً حَقَّاً صِدْقَاً صِدْقَاً، إنَّ المَوْلَي يُسَائِلُنَا، وَيُوَافِقُنَا وَيُحَاسِبُنَا، يَا مَوْلاَنَا لاَ تُهْلِكُنَا، وَتَدَارَكْنَا وَاسْتَخْدِمْنَا، وَاسْتَخْلَصَنَا حِلْمُكَ عَنَّا، قَدْ جَرَّانَا عَفْوُكَ عَنَّا، إنَّ الدُّنْيَـا قَدْ غَرَّتْنَـا وَاشْـتَغَلَتْنَا، وَاسْـتَلَهتْنَا وَاسْـتَغْوَتْنَا، يَا بْنَ الدُّنْيَا جَمْعَاً جَمْعَاً، يَابْنَ الدُّنْيَا مَهْلاً مَهْلاً.
يَا بْنَ الدُّنْيَا دَقَّاً دَقَّاً، تُفْنِي الدُّنْيَا قَرْناً قَرْناً، مَا مِنْ يَوْمٍ يَمْضِي عَنَّا، إلاَّ يَهْوِي مِنَّا رَكْنَاً، قَدْ ضَيَّعْنَا دَارَاً تَبْقَي، وَاسْتَوْطَنَّا دَارَاً تَفْنَي، تُفْنِي الدُّنْيَا قَرْنَاً قَرْنَاً، كُلاَّ مَوْتَاً كُلاَّ مَوْتَاً، كُلاَّ مَوْتَاً كُلاَّ دَفْنَاً، نَقْلاً نَقْلاً دَفْنَاً دَفْنَاً، يَابْنَ الدُّنْيَا مَهْلاً مَهْلاً، زِنْ مَا يَأْتِي وَزْنَاً وَزْنَاً، لَوْلاَ جَهْلِي مَا إنْ كَانَتْ عِنْدِي الدُّنْيَا إلاَّ سِـجْنَاً، خَيْرَاً خَيْرَاً شَـرَّاً شَرَّاً، شَـيئاً شَـيئاً حُزْنَاً حُزْنَاً، مَاذَا مَنْ ذَاكَمْ ذَا أَمْ ذَا، هَذَا أَسْـنَا، تَرْجُو تَنْجُو، تَخْشَي تَرْدَي، عَجِّلْ قَبْلَ المَوْتِ الوَزْنَا، مَا مِنْ يَوْمٍ يَمْضِي عَنَّا، إلاَّ أَوْهَنَ مِنَّا رُكْنَاً، إنَّ المَوْلَي قَدْ أَنْذَرَنَا إنَّا نُحْشَرُ غُرْلاً بُهْمَاً.
ثم سكت و صمت الناقوس.
كان الحارث يتغلغل شوقا و عجبا!
هل يعلم المسيحيون ذلك؟ !
كان ولي الله يتمشى بخطوات رزينة هادئة فوق الأرض و بين الملكوت. خف الخطى حتى يلحقه رفيقه:
لا يعرفون و إلا لعبدوا الله و ما اعتبروا المسيح ابن الله.
في اليوم التالي عندما ارتفعت طنطنة الأجراس مرة أخرى مدوية في أصقاع المدينة، أوصل الحارث نفسه إلى الكنيسة باحثا متفحصا.
كان الصليب الضخم المرتفع فوق الدير أول ما يلفت النظر و إذا بعينيه تلتقيان بالراهب المسيحي. تقاطعت نظراتهما فجأة.
كانت سحنة الرجل مهيبة وقورة، خط الشيب ذؤابات لحيته بينما راحت تتلاشى تجاعيد جبهته الشبيهة بالوهاد لتعبر حواجز العجز في اتجاه الأنف الطويل، لينتهي حبيس الهالتين الرماديتين تحت كل عين.
يعتمر قلنسوة سوداء مدورة تعلو رأسه في إشارة لرهبانيته و قلادة للصليب تتوسط صدره.
قال الحارث من غير مقدمة:
يا من تدق الناقوس كل يوم هل تعلم ما تقول هده الأجراس؟
تهاوى قلب الرجل بين قدميه و هو يكاد يصرخ من هول الصدمة .
التحم صوت الحارث مع قصيدة الناقوس و أوتار الغيب.
شعر الديراني أنه ماض بعجل صوب الإنهيار. توقف على حين غرة بينما كانت أصداء الطنين تحيط المكان بهالة السر الخفي.
استمر الحارث جاهلا تماما بالطوفان الهائج داخل الرجل و قد ارتفع برأسه نحو الأعلى و كأنه يحاول شق الحجب و راح يكرر ما سمعه من صاحبه.
كان صوته يختزل المسافة بين الحواس و يعيد تنقيط الجمل من جديد، بينما يسيح الراهب في ذاكرته بعيدا نحو القدم إلى نقطة مجهولة في الزمان، يتأرجح بين الوهم و الوجود، مصابا بخرس الذهول ترتعش فرائصه كنهم هائم ترك على مائدة ملونة.
عندما انتهي التمسه بصوت مرتجف كارتجاف النبتة و هي تشق الأرض في صبح الربيع:
ترى من الذي علمك هذا؟!
_ اخبرني به رجل عندما استمع لأنغام الناقوس.
قال المسيحي و قد أحاطت به هول الصدمة: هل هو نبيكم؟؟
أجابه موضحا باستغراب: كلا!
إنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
ابن عم نبينا محمد صلى الله عليه و آله. لقد سمع الحديث عن الرسول (ص).
خارت قوى الرجل و افترش الأرض، كانت تعتصره كل آمال الماضي و ليالي التفكرات الطويلة، عرف سر الأحجية التي فكر فيها لأعوام مديدة كامتداد سني عمره.
نظر إلى الحارث و قال:
لقد وجدت في إحدى الكتب السماوية أن آخر نبي يفهم حديث الناقوس و يردده. إذا إنه الرسول محمد صلى الله عليه و آله.
فك القس قيودا بدت له التحرر منها غاية مستحيلة، ليعتنق حرية كان يترصدها منذ فترة و تنساب روحه ماضية كنهر تلوى جاهدا للوصول إلى البحر أخيرا.
أعلن إسلامه و هو ينطق الشهادات الثلاث مدوية صارخة في بطون الدهر، مضيئة يعتلي ضياها سنا الشمس في قلب النهار.
اضافةتعليق
التعليقات
الاردن2024-04-23
*عن الحارث الأعور قال: بينا أنا أسير مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في الحيرة إذا نحن بديراني... يضرب بالناقوس، قال: فقال علي بن أبي طالب عليه السلام:*
*يا حارث أتدري ما يقول هذا الناقوس؟ قلت: الله ورسوله وابن عم رسوله أعلم. قال: إنه يضرب مثل الدنيا و خرابه ويقول:*
*لا إله إلا الله حقا حقا، صدقا صدقا*.
*إن الدنيا قد غرتنا وشغلتنا و استهوتنا واستغوتنا...*
*يا ابن الدنيا مهلا مهلا، يا ابن الدنيا دقا دقا..*
*يا ابن الدنيا جمعا جمعا..*
*تفني الدنيا قرنا قرنا،*.
*ما من يوم يمضي عنا، إلا وهي أوهت منا ركنا*
*قد ضيعنا دارا تبقى، واستوطنا دارا تفنى، لسنا ندري ما فرطنا، فيها إلا لو قد متنا.*
*كتاب بحار الأنوار ج2 ( ص322)*