هناك متّسع من الوقت لنفعل شيئا، أو لنحقق حلما لكن إذا أردنا أن نعيش حياة مليئة بالفرح والرضا، فما علينا إلا أن نجعل التفاؤل والسعادة منهجا وهدفا نسير عليه، فبالتفاؤل تتحقق السعادة، وبالسعادة يتحقق الرضا، فهما من أساسيات الحياة المثالية التي يتمناها كل إنسان.. فالأشياء الكثيرة يرى فيها الإنسان أسباباً للسعادة، لكن السعادة الحقيقية تكمن في أن يكون قلب الإنسان عامراً بحب الله سبحانه وتعالى فيعيش المرء براحة وطمأنينة ورضا وقناعة، فلا يلتفت كثيراً للأشياء المادية، لأن السعادة الحقيقية هي راحة البال وطاعة الرحمٰن، فلنكن قانعين بما لدينا وراضين عما نحن عليه.
وحينما وقفت على ناحية الحزن أنتظر الأمل، ونظرت من بعيد فإذا بالأمل قادم بصحبة الصبر، وحسن الظن بالله، فالأمل في حياتنا مثل الطاقة لا يفنى ولا يستحدث، ولكن يتحول من شكل لآخر، لأن الثقة بالله لا تنقطع، و"لنا أمل يأتي ويذهب لكن لن نودعه".
في عتمة السباق كنا نهوى والآخرون يظنون صرختنا للانتصار فيفقدون الأمل في المركز الأول، التفكير في الحياة ومشاكلها الكثيرة أمر متعب.. ولكن الهروب من المشاكل وتركها تتراكم هو أمر أكثر إرهاقا ومشقَّـة، والهرب من الذات ومن المشاعر المتعبة والحزينة والذكريات المؤلمة، قد يكون حلا مؤقتـا.
أيها التعساء جربوا الدخول إلى ذواتكم، إلى عوالمكم الخفية التي لا يصل إليها أحد غيركم، جربوا الإستمتاع بلحظات التأمل الداخلي العميق والواعي، والتعود على التأمل الخارجي بمساعدة ذواتكم، وستجدون أنكم امتلكتم الحكمة الصعبة المنال، ووصلتم إلى ساحل الأمان الذي ينقذكم من الخوف والقلق والتمزق النفسي. ومع الإستغراق في فحص الذات وتأمل الحياة والأحداث لا تنسوا قيمة الإيمان وضرورته هدوء النفس وراحتها، الإيمان بالله تعالى وبقدراته الكليِّة على العناية بكم وتدبير أموركم وتيسير حاجاتكم، وهذا ليس استسلاما يائسا كما يرى البعض، وإنما هو منتهى الحكمة، فمن يقدر على مساعدة النفوس المتعبة والمرهقة سوى خالقها وموجدهـا العظيم؟ وبمعونته تعالى.
فإذا كانت سعادة الإنسان مرهونة بوجود شخص أو امتلاك شيء محدد فما هي سعادة، أمّا إذا عرف الإنسان كيف يقف وحده في موقف عصيب، مؤدياً ما يجب عليه من عمل بما في قلبه من حب وإخلاص فهذا الإنسان قد وجد إلى السعادة سبيلاً.
فالسعادة مفتاح الحياة الجميلة، فلنؤمن بأقدارنا، ولنؤمن بأرزاقنا، فحياتنا ملك لنا بأيدينا نجعلها حزينة، وبأيدينا نجعلها سعيدة، إبتسم في وجه الصغير ولتستمد من عينيه السعادة وأربط على يد طفل يتيم إحنو عليه بدون تكبر ولا أظهار شفقة وسترى في عينيه كل الحب والسعادة.
فما زال الصبر دواءنا جميعاً وسيبقى الحب والأمل والتفاؤل عكازنا فلنقتلع المستحيل من قاموسنا ونعزز الأمل والتفاؤل في نفوسنا ليحل محل الألم.
فلذلك سوف أحكي لكم درة من درر أمير المؤمنين (ع) مع ذلك اليهودي وماذا فعل الإمام لنأخذ موعظة بثواني منه:
في مكان بعيد في الصحراء، كان هناك عائلة فقيرة الحال، لا تملك من متاع الدنيا شيئاً، وكانت هذه العائلة تعيش في خيمة متداعية قرب قصر رجل من اليهود، في كل مساء كان هذا اليهودي يرمي بفضلات طعامه خارج القصر، وكانت هذه الفضلات المصدر الوحيد لمعيشة تلك العائلة المعدمة، في يوم اشترى هذا اليهودي ثلاثة كلاب شرسة لتحرس له قصره، ومن وقتها صارت الفضلات تذهب للكلاب بدلاً من أن تحصل عليها العائلة الفقيرة.
ولهذا صار أفراد العائلة ينتشرون كل صباح في الصحراء باحثين عن لقمة العيش.. لكنهم كانوا يعودون كل مساء إلى خيمتهم المتداعية دون أن يجدوا شيئاً يساعدهم على البقاء ويقيهم شر الجوع.. إلى أن بدأ الضعف والهزال يغزوا أجسامهم.. فمكثوا في خيمتهم منتظرين رحمة الله وفرجه.
وفي يوم كان الإمام علي (ع) ماراً مع خادمه (قنبر) بالقرب من خيمة تلك العائلة، وسمع أنيناً مخنوقاً آتياً من الخيمة أسرع الإمام (ع) نحو مصدر الصوت، دخل الخيمة فوجد العائلة متكومة على بعضها وقد أخذ الوهن والجوع منها كل مأخذ. نظر الإمام (ع) إلى قنبر سائلاً إياه إن كان في جعبته شيئاً من الطعام أو المال، قال قنبر: (أنسيت يا أمير المؤمنين ماذا فعلت! ونحن في الطريق إلى هنا، لقد تصدقت بكل ما كان معنا من طعام ومال، لم يعد معنا سوى كسرة خبز وفرناها لعشائنا).
أخذ (ع) كسرة الخبز وقسمها بين أفراد العائلة، لكن هيهات أن تسد هذه الكسرة جوع العائلة، فكر الإمام علي (ع) ماذا يفعل؟ خرج من الخيمة فظهر أمامه قصر اليهودي، هز برأسه وقد قرر أمراً، ثم قال: عد يا قنبر إلى البيت.. وسوف ألحق بك بعد أيام.. حاول قنبر أن يستفسر من الإمام (ع) عن السبب في بقائه فلم يفلح، فمشى مبتعداً وعيناه لا تفارق حبيبه الإمام (ع)، تقدم أمير المؤمنين (ع) من بوابة القصر، قاصداً الدخول فابتعدت الكلاب عن قدميه ثم تراجعت فاتحة الطريق له.. دخل الإمام (ع) على اليهودي وفاجأه في مجلسه، قال اليهودي: من أنت وكيف دخلت؟ قال (ع): أنا إعرابيٌ من هذه الناحية، وقد قصدتك للعمل في بستانك. كان الإمام (ع) يتكلم والهيبة متجلية في وجهه وصوته بأسمى معانيها، انشد اليهودي إليه مأخوذاً بهيبته ثم قال: (أنا موافق اذهب واسق نخلات البستان، وأجرك تأخذه يوماً بعد يوم).
وهكذا راح الإمام (ع) يسقي النخلات، وعندما حاول اليهودي إعطائه الأجر مساءً قال له أمير المؤمنين (ع): (أعطني بالأجر طعاماً وشرابا وأكون لك من الشاكرين). قال اليهودي: مثلما تشاء، وأعطاه ما أراد، ما إن حصل أمير المؤمنين (ع) على أجره حتى أسرع إلى العائلة، فوجدها على حالها من الجوع والوهن، وضع الطعام والشراب أمام الأولاد فراحوا يلتهمونه التهاماً.. وهكذا ظل الإمام علي (ع) يعمل في بستان اليهودي، ويأخذ أجره طعاماً ويطعمه للعائلة لثلاثة أيام متتالية، في اليوم الرابع أراد اليهودي أن يعرف ماذا يفعل هذا الرجل بالطعام الذي يأخذه كل يوم، فلحق به إلى خيمة العائلة ورآه وهو يضع الطعام أمامها.
كانت دهشة اليهودي كبيرة، وقبل أن يستفيق من دهشته دخل (قنبر) إلى الخيمة فوجد الإمام علي (ع) جالساً بين أفراد العائلة يشاركها الطعام، قال قنبر: نحن في أشد القلق عليك يا أمير المؤمنين وأنت جالس هنا! ماذا تفعل، ولماذا تأخرت؟ عندما سمع اليهودي كلام قنبر وعرف أن الرجل الذي أمامه ما هو إلا أمير المؤمنين (ع)، ركع يتشهد بين يديه ويقول: الله أكبر.. لقد سمعت عنك الكثير، وها أنا أرى فضائلك بعيني. راح اليهودي يتكلم وجسمه يرتجف كورقة بمهب عاصفة من التأثر .
السلام عليك يا أبا الأيتام والفقراء يا علي
ان الدنيا بفقدكم مظلمة والآخرة بأنواركم مشرقة ..
يا حبيب قلوبنا وبلسم فؤادنا يا علي
قصدت في هذه الحكاية عن تلك العائلة الفقيرة هو كيف أنها صبرت على مرّ الحياة، وانتظرت الفرج، لكن الله سبحانه لم يهملهم، كانوا أمام ناظريه، وايمانها به هو قوتها رغم جوعهم فكانت متفائلة ليوم ما، هذا وقد لاح إليهم أمير المؤمنين علي (ع) وأعاد لهم ابتسامتهم مرة أخرى.
لنجعل تفكيرنا بالله وإلى الله ومن الله ففي الحياة لا يوجد مستحيل.
اضافةتعليق
التعليقات