(القصة الحائزة على المركز الثامن في مهرجان أجنحة السلام)
ما إن تأوهت من شيء رزئت به
كما تأوهت للأيتام في الصغر
قد مات والدهم من كان يكفلهم
في النائبات وفي الأسفار والحضر
للإمام علي (عليه السلام).
(حروفي تيتمت من بعده، أوراقي شارفت على البياض، ومازلت على قارعة الطريق ومازال الآخرون ينعتوني بالجنون؟ ولهم كل الحق في ذلك..... ).
لا شيء يحدث بالصدفة، هذه مقولتي وما كنت اردده دائماً، اقلّب القصاصات الورقية الصغيرة فازداد حيرة وارتباكاً، من هذا الذي يحاول بث حزنه للورق ينفث بحبره كلمات قليلة وجدت لها السبيل الى قلبي.. شعور خفي يربطني بكاتب تلك الوريقات الصغيرة ومما يزيد الامر تعقيداً اني لا اعرف شكل هذا الشخص او حتى اسمه ولكن احساسي ينبئني بأني التقيته في صباح يوم ما وفي مكان ما، اكاد اجزم اني سمعت روحه تهمس في اذني: هل من مساعدة؟
في الأمس القريب أكمل النجار صنع المكتبة التي لم اقتنع بجلبها جاهزة من السوق اردت اضافة لمساتي وإعطائها للنجار فتصبح كما ارغب.....
رفوف كثيرة وكرسي للقراءة وغرفة هادئة تطرق الشمس شباكها، باكورة النهار هذه هي مقومات مكتبتي ولا أنسى المصباح الذي يعمل بالبطاريات او الشحن كي لا تنغص الكهرباء عليَّ متعة القراءة في ليالي الوطن....
سأذهب في كل صباح جمعة لشارع المتنبي كي أملأ هذه المكتبة التي تربعت في ركن غرفتي بما لذ وطاب لي من الكتب انها خير ميراث يرثه ولداي مرتضى وزينب...
ها قد شارفت سنواتي الأربعون على الرحيل، أكملت شوطا لا بأس به وحققت جل ما احلم به، صباح يومي هذا سأكمل مناقشة اطروحتي في الأدب العربي واحصل على شهادة الدكتوراه، كان حلمي ان يحضر صاحب تلك الوريقات كي يدلي برأيه في اطروحتي قد يكون كاتبا كبيرا او اديبا ولكني لا اعرفه؟ خيل لي اني رأيت ملامح وجهه للتو وهو يلوح لي بيده ويحمل بالأخرى شيئاً ما ملفوفاً بقطعة من قماش ولكن اين رأيت المنظر ومتى؟؟؟
بعد نيلي لشهادة الدكتوراه فرغت نفسي لقراءة ما لذ وطاب لي من الكتب وقلت في نفسي: (هيا يا دکتور محمد، إقرأ ما تحب من الشعر والشعراء، المتنبي، الجواهري، الشريف الرضي، السياب......، لا تخف فليس هناك اختبار لما تقرأ بعد اليوم، فاقرأ بحب واقرأ بشغف.
المجهول
(كان يوماً سعيداً ومحزناً في الوقت ذاته، فلم افقد يا ابي من أطفالي سوى طفل واحد لا يهمني ان اجد مأكلا او مشربا المهم إن أطفالي بخير، احتضنتهم ولففتهم بقطعة من قماش وعدت الى المنزل، ولكن المشكلة إن أمي بحاجة الى العلاج وحالتها في تدهور مستمر علي أن أضحي بطفل أو أكثر يا أبي لإنقاذ أمي انها معادلة صعبة يا أبي العزيز معادلة صعبة.......).
قلبت مشترياتي من الکتب التي جلبتها من شارع المتنبي کان بائع الكتب مجيد يتحفني بما لذ وطاب من الكتب المحببة لروحي فرحت بأصدقائي الجدد وفكرت بمجيد ربما يكون هو من خط مشاعره على الورق ربما؟؟
سأذهب كل جمعة علني التقي بك أنت بحاجة للمساعدة أشعر بضربات قلبك المتسارعة ولكن ضجيج شوارع بغداد أخفى عن سمعي تلك الضربات، روحك همست في أذني هل من مساعدة؟ ألا تذكر ذلك يا رفيقي العزيز؟
في هذه الجمعة وبعد اكمال مشترياتي من الكتب قررت الجلوس في القهوة وشرب كوب من الشاي كي يتسنى لي تفحص الكتب التي اشتريتها لعلي أجد صديقي المجهول....
رأيته يلف كتبه بقطعة من قماش مطرزّة ويرصّها بلطف على الطاولة الخشبية التي تقف أمامه سألت مجيدا بائع الكتب عنه فنعته بالمختل عقلياً یأتي اليه الزبون يسأله عن سعر الكتاب فلا يجيب، اغلب كتبه مستعملة قد تجد ورقة او ورقتين متهرئات في كتبه، القليل من ينفق أمواله على شراء مثل هذه الكتب فهي متوفرة بطبعات جديدة وبنفس الاسعار تقريباً يا دكتور محمد فلا تضيع وقتك على الشاب غريب الاطوار هذا وانظر ما جلبته اليوم لك من أصدقاء جدد تضمهم لمكتبتك الحافلة.
أحب الكتب المستعملة التي لامس أوراقها أشخاص غيري انها تنطق أحياناً فتروي قصصاً وحكايا عن أصحابها السابقين.....
سلمت علیه رد سلامي بصعوبة بالغة سألته هل أجد عندك ديوان الجواهري، سرح للحظات وقال لي: (هل بإمكانك أن تمهلني عشر دقائق ريثما أجهز لك الكتاب ياعم).
قررت أن لا أعود إلا بديوان الجواهري...
المجهول: (أعلم أنك تحب كل أطفالك بالتساوي ولكن بعضهم كان مقرباً اليك اكثر من الاخر، وبالأخص هذا الطفل، اسمع صوتك يا أبي وانت تقرأ مقطع من قصيدة الجواهري وتتمشى في ارجاء المنزل..
حيّيْتُ سفحكِ من بُعد فحييني
يا دجلة الخير يا أم البساتين
حيّيْتُ سفحكِ ظمآناً ألوذُ به
لوْذَ الحمائم بين الماءِ والطينِ
يا دجلةَ الخير يا نبْعاً أفارقُهُ
على الكراهةِ بين الحين والحينِ
إنّي وردْتُ عيون الماءِ صافيةً
نبْعاً فنبْعاً، فما كانت لترويني
وأنت يا قارباً تلْوي الرياحُ بهِ
لي النسائمِ أطرافَ الأفانين
وددْتُ ذاك الشراع الرّخصَ لو كفني
يُحاكُ منه، غداة البيْنِ، يطويني
يا دجلة الخير: قد هانت مطامحُن
حتى لأَدنى طِماحٍ غيرُ مضمونِ).
يحمل ديوان الجواهري في طياته هذه القصاصة التي زادت من تخفّي كاتبها ولكنها أعطتني خيط لكي أمسك بالبداية علي أولاً أن أعرف من هو مالك كتاب ديوان الجواهري؟ هذه كانت مهمتي الجديدة في شارع المتنبي.
في الجمعة القادمة ذهبت لشارع المتنبي أبحث عن الشاب بائع الكتب المستعملة اشتريت منه مجموعة لا بأس بها من الكتب ديوان الشريف الرضي، والآخر ديوان المتنبي، وآخر لبدر شاكر السياب، أعشق الشعر بجنون، الشعر هو الهواء الذي تتنفسه رئتاي كل يوم.
أشفقت على الشاب أراه يذبل كوردة تسقط أوراقها الواحدة تلو الأخرى كلما كان يبيعني أحد الكتب فاكتفيت لهذا اليوم بهذا القدر من الهواء أحمله معي....
أول جرعة من الهواء أخذتها كانت من ديوان الشريف الرضي تصفحت أوراق الديوان الصفراء خطوط هنا وهناك تحت أبيات تنم فعلاً عن ذوق منتقيها وفجأة لمحت قصاصة أخرى كتب فيها:
(في الأيام القليلة التي أعقبت رحيلك وبعد ان أفاقت أمي من الصدمة ارجعتني للمدرسة وشيعتني بنظراتها الدافئة وفور وصولي وجدت هذه النظرات في كل مكان أكاد أختنق من الدفء، لا أرغب في اكمال يومي في المدرسة، ولا في البيت صرت اقضي معظم يومي بالشوارع ولكن النظرات الدافئة تلاحقني في كل مكان وتهمس في أذني (انه يتيم) نعم إنها حقيقة لا مفر منها ولا أرغب بسماعها في الوقت ذاته.
في كتاب القراءة في صف الخامس الابتدائي عند ذكر كلمة الأب تنتابني نوبة البكاء وأخرج فارا من الصف الى مكان مجهول لا أعرفه، أجوب الطرقات ولكني أرجع في اليوم التالي أتصفح كتاب القراءة علني أجدك ولكن لا أجد سوى الكلمات...).
تساءلت في قرارة نفسي عن هذا الیتیم الذي أخذ منه الحزن کل هذا المأخذ أتمنى أن ألقاه وأضمه لصدري يا لفداحة اليتم ويا لليل اليتيم الذي لا ينتهي....
فتشت الكتب التي اشتريتها الواحد تلو الآخر وجدت في ديوان بدر شاكر السياب قصاصة فيها بيتا له:
لك الحمد إن الرزايا هدايا الحبيب أضم الى الصدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب هداياك مقبولة هاتها
وقصاصة أخرى مكتوبة بخط متعرج:
(حاولت أمي أن تخفي عني البوم الصور، أنا اعلم أنك تذكره جيداً فقد كنت توثق كل صغيرة وكبيرة في ذلك الالبوم ذات يوم مسكته ولكني لم أجد وجهك في مكانه لم أجد إلا فراغ موحش ولد في نفسي حسرة وألما).
(خير جليس في الزمان كتاب هذا ما كنت تقوله لي دائماً ولكن ماهو رأيك إذا اضطررت أن تبيع ذلك الجليس؟).
(يراودني ذلك الحلم في كل ليلة أراك في القطار وبيدك ورود حمراء وكتب، أريد اللحاق بك ولكنك لا تراني تصعد في ذلك القطار وأنا أركض وأركض أعطي التذاكر وأهم بالصعود، وإذا بالقطار يرحل سريعاً ولا استطيع اللحاق بك في كل حلم).
صرت دؤوباً على شراء الكتب المستعملة من ذلك الشاب دونت القصاصات التي أجدها في دفتر عندي إنها مشروع لكتاب ناجح أتمنى أن أجد كاتبها وإلا سوف أطبعها واضع في خانة اسم المؤلف (الكاتب المجهول).
وريقات أخر وجدتها في طيات الكتب:
بنت الجيران، (بنت الجيران التي كنت أتابعها بنظراتي التي كانت أقرب للطفولة منها للشباب، وبما أنك صاحبي قبل أن تكون أبي هل تذكر عندما صارحتك بحبي لها، يومها ضحكت من كل قلبك، وقلت لي: عندما تكبر سأخطبها لك، والان انا كبرت وبنت الجيران رحلت، وأنت أيضاً رحلت فقط أنا ما زلت مكاني).
لماذا تدمع الفسائل؟ (فسائل صغيرة تغطي عيونها بالسعف، وأرى من خلف سعفها نقاط منهمرة،
ترى هل تبكي الفسائل؟
نعم إنها تبكي ولا تود رؤية الفأس وهو يقطع الأشجار الكبيرة لقد تمادى ذلك الفأس كثيراً حتى أدمى قلوب تلك الفسائل المسكينة).
عند نسمات الصباح، (اشم كل كتاب وأقبّله، كل صباح فروحك قد حلت فيه کفراشة تأخذ رحيق الازهار).
شموع باردة، (والأيام الماضية تبقى في ذاكرتي الى الابد وطابور الذكريات ملئ بالشموع ولكنها شموع بلا دخان انها الشموع الباردة).
رؤية مشوشة
(صفوف من البشر متجهين الى مكان ما ليل بهيم، يلف المكان، وانا معهم انظر الى اوراقي، ارى فيها معلومات كثيرة ناقصة، والاخرى غير واضحة، كل شئ في اوراقي مشوش يطلبون مني الامضاء على ورقة لا اعلم كنهها، ومن ثم يسألوني إن كنت أرغب بالعودة، أم رؤية المستقبل، فاختار العودة لتلك اللحظة التي عانقتك فيها في ذلك الشارع اللئيم واقف عندها بلا حراك).
كي لا يصاب الكتاب بالبرد
(الكتب كأطفالي الذين أحلم بوجودهم منذ سنوات، في الصباح الباكر أقبّلها، أخاف عليها من البرد ألفّها بقطعة قماش، وأخرج بها للشارع من يراني يحسبني مجنون، ولكن لا يلام على ظنه، فانا شخص نادر يتألم لفقدان جزء منه هل أنت معي يا أبي في هذا الرأي أم انك تنضم لصفوف المتهمين لي...... أرجوك أجبني، ولو لمرة واحدة، أصرخ في وجهي، عاقبني على تأخري عند اللعب بالشارع مع اصدقائي، افعل ما شئت، كي أسمع صوتك وأحيا من جديد، عمري لم يتعد العشرين، ولكن صورتي بلحية كثة وشعر اشيب لا تفارقني، أنظر لصورتي في المرآة يصيبني الفزع أركض لأمي تحتضنني وتبكي......).
لم يعد يهمني أمر شراء الكتب بقدر همي في انتشال ذلك اليتيم وإخراجه من وحدته الموحشة، نعم فهناك من يستغيث ولكن لاصوت له.
تكررت زيارتي لذلك الشارع وتكرر معها شراء الكتب وقراءة الأوراق المخبأة أضحت هواية جديدة تلج لعالم هواياتي المتعددة.
اين هو ذلك الشاب يا مجيد؟
من يا دكتور هل تقصد ذلك الشاب حيدر (المختل عقليا غريب الاطوار)؟
نعم يا مجيد أريد أن أراه أين أجده هل يبيع الكتب في مكان آخر؟
رد مجيد: في صباح الأمس تلقى الشاب حيدر الذي كانوا ينعتونه بالمختل أو غريب الاطوار اتصالاً هاتفياً، هرع لكتبه لفّها بقطعة القماش وحملها على صدره كما تحمل الأم وليدها الصغير، ركضت خلفه بعد أن رأيته ليس على مايرام وكادت السيارات المارة تدهسه بعجلاتها المتهورة حاولت حمل الكتب عنه لكنه امتنع سألته ما الخبر؟
أجاب: أمي يا عم، أمي يا عم نقلها الجيران للمستشفى قد تلحق بأبي وتتركني وحيداً في هذه الدنيا وركض مهرولا لسيارة التكسي التي أومئ لها بيديه.
ولكن أين هو أبو الشاب يا أستاذ مجيد؟
كلمني والحزن يلمع في عينيه بعد عودته من العمل هو وابنه سمعوا دوي انفجار وسط العاصمة بغداد لم يكن حيدر آنذاك سوى طفل في العاشرة من عمره لاذ من الخوف إلى أحضان أبيه لكن حيدر شعر ببرودة حضن أبيه فعلم بفطرة الطفولة العراقية أنه أضحى بلا أب......
غمر الحزن قلبي، ذلك الشاب اليتيم كان يبيع كتب أبيه الذي استشهد في أحد الإنفجارات ليشتري الدواء لأمه، ولكن تلك الكتب لم تكن مجرد أوراق عند ذلك اليتيم، بل كان يعتبرها كأطفاله يحميها من برد الشتاء ومن حر الصيف وقد ورث حبه لها من أبيه.
اضافةتعليق
التعليقات