فتشت حقيبتها وعدت نقودها على عجل، ثم راحت تبحث بارتباك عن خمارها الأسود فلم تجده، مع أنه معلق أمامها حيث تعودت أن تضعه على الدوام، كانت تلك اللحظات حرجة جداً بالنسبة لها.
ـ حسين.. أنا قادمة.
عبارة لفظتها بنبرة أقرب إلى الصراخ، بينما نزلت سلم بيتها المتهاوي كروحها.
حملت حسين بمساعدة بعض جيرانها، فهي لا تقوى على حمل رجل، ثم ارتقت سيارة الاجرة التي سارت نحو المشفى، مسرعة كنبضات قلبها التي كادت تخرج من صدرها قلقاً.
لحظاتها تمضي كدهور، والأفكار المخيفة تراود قلبها لتدس فيه كل الاحتمالات والهواجس.
لكنها شجاعة.. ألفت الصبر وتجرعت أطناناً من الألم منذ أن صيرت نفسها زوجة لشهيد وأماً لمقاتل، لذا حاولت لملمة ذرات روحها مخاطبة الجزء الصغير الذي بقي واعياً من عقلها بعد حادثة الصباح الغريبة تلك، بقولها:
ـ حسين شاب قوي، بطل لم يعرف الخوف إلى قلبه منفذا، ولا ينفذ هوى قلبه الى غير المعارك ودحر العدو، كان أول الملبين لنداء الواجب، جندي باسل من أبطال الحشد الشعبي، وما حصل له هذا الصباح ما هو إلا ضعف تسلل الى جسده، فهو لا يأكل جيداً هناك، ففي الجبهة يفقدون شهية الطعام كفقدهم كل أنواع الحب في هذه الدنيا إلا حب الشهادة.
بهذه الكلمات همست لنفسها لتطمئنها ثم بدأت تسترجع ذاكرة ما حصل.
في ذلك الوقت من ليلة الجمعة وبينما كنتُ أتم سجدتي الأخيرة لصلاة المغرب دخل كأنه العيد ببذلته العسكرية وحقيبة ملابسه التي أسدلها على ظهره.
نعم كان وجهه شاحبا لكن ابتسامته رائقة وعيناه تغزل خيوط الشوق قبل أن تنسجها كلماته واحضانه الدافئة.
تناولتُ وإياه طعام العشاء، كان يخبئ حزنه على رفاقه، خلف بريق عينيه الذابلتين، فقدهم واحداً تلو الآخر في المداهمات والغارات، ولا انكر أن هذا الحزن خط على تقاطيع وجهه تعابير الهيبة والوقار، لكأنه منذ التحاقه بأقرانه أصبح أكثر نضجاً حتى أنه أصبح أكثر براً بي.
قضينا وقتاً رائعاً خاصة مع التعلل وشرب فناجين الشاي التي لا تمل مع المسامرة في ليالي اللقاء بعد غياب دام أشهراً طويلة.
أشرقت صباح وجوده في المنزل، والتي كانت أغلى امنية على قلبي، كانت الساعة التاسعة تحديداً استيقظت على صراخه:
-أمي ..أمي ..أمي
-خرجت من غرفتي وركضت مسرعة اليه لأجده مرمياً على الأرض.
-ما بكْ.. ما الذي اصابك يا ولدي؟!
- لا أدري.. نهضت كعادتي لكنني وجدت نفسي لا أقوى على الوقوف، لا اشعر بقدميّ.
توقفت السيارة فجأة وقطعت معها حبال أفكاري.
وصلتُ.. أخيراً
نزلتُ مسرعة.. وبمروءة السائق استطعت إيصال ولدي إلى الداخل، وأُجريت له كل التحاليل اللازمة، بدأت بتفقد حقيبتي مرة أخرى لأعرف إن كانت نقودي تكفي أم لا؟
ـ نعم تكفي، مائة وخمسة وعشرون ألف تكفي بالتأكيد (أحدث نفسي).
بعد اتمام الفحوصات وإجراء اللازم.. الطبيب:
ـ لا تقلقي سيدتي مجرد ضعف عام في بدنه، بسبب اهماله الطعام وقلة النوم والاجهاد المستمر.
- شكراً لك دكتور.. هل بإمكاني اخراجه من المشفى الآن؟
ـ ليس قبل أن تدفعي 1000 دينار ثمن الحقنة..
- لكنني دفعتُ مائة وخمسة وعشرين ألف ولم يتبق لي دينار حتى لأجرة العودة.
- آسف.. هذه هي التعليمات.. انتِ محتجزة.
أرفع سماعة الهاتف:
ـ أخي هل بإمكانكَ أن تأتي إلى مشفى الرحمة لدفع كفالتي كي أخرج بسلام؟!
اضافةتعليق
التعليقات