اتخذ محمد جانباً قصیاً من مخیم (دومیز)، کان یوماً حافلاً ومزدحماً إثر وصول جوقات جديدة من النازحين الوافدين من مختلف الأماكن.
أراح ظهره على الكرسي الجاثم هناك أبداً كمخلوق أسطوري جاء من الفضاء، ليقاسم أهل المخيم تعبهم وشقاءهم، ذاك الموجود الذي إذا تسنى له الكلام عن حال الذين جلسوا عليه خلال تلك الحقبة من الزمن لسطر الملاحم تلو الملاحم.
أسند رأسه على الحائط في حركة تنم عن كل متاهاته وصراعاته حتى تلك اللحظة، الجوع
والتعب والغربة، وصورة أمه التي تدق مخيلته، بكوفيتها وعباءتها السوداء، الملقاة على جانب الغرفة في استعداد تام متى أرادت الخروج.
تخاطفت جفنيه وسنات سريعة، تناهى إلى سمعه فجأة صوت (سلمى) وهي تردد اسمه بغنج السمراوات، هزه في كيانه عميقاً كصعقة كهربائية استيقظ على أثرها من غفوة أخذته لبرهة من الزمن إلى نواح قصية جداً، بعيدة عن أزيز الرصاص، ودوي المدافع، وهدير الطائرات.
خاطب نفسه مبرراً إلتحاقه بالجيش، وكأنه يقنع طفلاً بالذهاب إلى المدرسة في يومه الأول:
على فرض أنني لم ألتحق ماذا كنت سأفعل؟! التفوق في الجامعة له مصائبه أيضاً؛ لا يكفي أن أكون متميزاً، لا بد من المال إذا أردت استكمال المسيرة خصوصاً إذا نويت السفر لإكمال الدراسة.
حتى (سلمى) على فرض أني خطبتها ماذا سأجيب والدها إذا سألني عما أملك وماذا أعمل؟!
من المؤكد أنه لن يهبني إياها هكذا قربة لله!.
كان المخيم ساحة فسيحة ممتدة في بطن الصحراء الشاسعة، تبدو فيها الخيام المتلاصقة كأنها جنيات المساء، تعانقت لتهمس في أذن بعضها قصصاً لا تروى.
كل زاوية من حوله تصور دراما مسرح يمثل شخوصه تمثيلاً مباشراً لمآسي الحرب البغیضة، تختصر كل المشاهد، دمعة تساقطت على وجنة غادة لمحها تجلس بمفردها وفي حضنها رضيع لا يكف عن البكاء.
كانت برودة الجو تخترق كل المسامات لتلامس العظام مباشرة. رمى بنصف نظرة نحو الأفق، أخذ سرب من الحمام صفحة السماء مسرحاً يقدم عروضه البهلوانية شاقاً بأجنحته الفضاء الرحب، يتبختر بحرية في كل الإتجاهات، واستأنف: ثم أن طيور الوطن تحتاج لحماية!.
كان محمد شاباً عشرينياً، يشق بقامته الممشوقة ومنكبيه العريضين دروب الشباب الملتوية، يصفف شعره ناحية الخلف بلمسة أنيقة، يضفي عليه هندامه العسكري هالة من الهيبة لا يناله الوهن، ويشع من عينيه السوداوين، بريق يرشق المجهول بسهام قلما تخطئ في أهدافها، أما كفاه فقد كانتا من الفولاذ، ينبعث منهما تيار من العزم يباطح المستحيل.
قام متخذاً هيئة استعداد بعدما جاءه نداء قائد الفرقة لاستكمال المهام، حمل غطاء ألقاه على الرضيع ثم سار بضع خطوات وإذا به يلمح شيئاً من بعيد، ظنه في الوهلة الأولى كيساً ولكن عندما اقترب، وجدها حقيبة ملقاة على جانب الطريق، تناولها بحذر وشرع يتفحصها بدقة خشية أن تكون مفخخة.
لما تأكد من سلامتها حملها وأودعها في مكان أمين.
مضت ثلاثة أيام، مافتئت شياطين الحيرة تتقافز في دماغه مولولة دون هوادة، لا يعرف هل يفتح الحقيبة أم لا؟! إنها أمانة ربما لا يود صاحبها أن يعرف أحد بمحتواها، ولكن ماذا لو كان فيها جوال أو رقم هاتف؟.
ألحت الفكرة عليه، إلى أن حسم أمره في اليوم الرابع.
كانت حقيبة حمراء بحجم متوسط، يتراوح وزنها قرابة كيلو غرامين، فتح السحابة من الأعلى
وإذا به يصرع بمنظر عملات نقدية ومصوغات ذهبية تلألأت أمام ناظريه..
يا لصاحبك المسكين! ألم تكفه مآسي الهجرة والنزوح؟ من المؤكد أن ألم فقدك زاد لياليه الليلاء حلكة وظلاما!.
أعادها في مكانها وسحب السحابة كما كانت متجاوزاً كل نزق أخرق حاول التسرب من تصاريف نفسه الهوجاء.
أمضى أسبوعاً كاملاً يتفرس الوجوه والشخوص عساه يمسك برأس خيط دون جدوى، قصة الحقيبة كانت تأكل رأسه.
في آخر الأسبوع وقبل انتهاء خدمته بخمس دقائق لاحظ لاجئاً ينصب لافتات على الصبات بتوتر وعشوائية مكتوب فيها (على من يعثر على حقيبة فيها أموال ومصوغات ذهبية..).
نفض التراب من يديه ومسحهما ببدلته العسکریة، ثم عدل طاقيته وتوجه ناحية الرجل؛ عميقاً في عينيه رأى شيئاً يشبه الخيبة.
سأله ماذا أضعت يا أخي؟
قال بصوت متهدج: أضعت تعب العمر كله، كانت نبرته تشبه النواح أكثر من الكلام، كأنه يعالج غصة مكبوتة تكاد تخنقه وهو يبعثر الكلمات من فمه.
_ ما اسمك ومن أين أنت؟
_ أنا شادروان، وصلنا من الموصل تواً، كان في الحقيبة كل ما نملك أنا وعائلتي، من دونها لن يكون لنا قرار في أي مكان أبداً.
وقف أمامه مباشرة، كائنان التقيا على سبيل الصدفة ليغير كل واحد منهما حياة الآخر ويعيد رسم تناقضات الخير والشر الخزينة هناك عميقاً في رأسيهما.
ارتسمت ملامح السكينة على و جهه و ما أن وجد الفرصة سانحة قال بصوت يحدوه الأمل:
_ ضالتك عندي! أعطني وصفاً لأسلمك إياه!، توقف شادروان عن الحديث فجأة، وأثبت عينَه في عينيه يسبر أغوارهما، اكتسحته جيوش الصدمة، كان الألم مبثوثاً في قسمات وجهه.
هل يا ترى يستهزئ به هذا الجندي الغر الذي لم يشهد من الحياة سوى اللمم؟!
كيف لشاب مثله أن يسلم حقيبة ملأى بالمصوغات والذهب، وسط هذا الهياج العاصف في مخيمات البؤس والجوع والفقر، وطبول الحرب التي لا تكف أن تقرع في هذه البلاد لتسلب الناس كل شئ ثمين؟!
هل قرر اجتیاز الجهاد الأكبر بعد أن سجل البطولات في جهاده الأصغر؟!
تقافزت الكلمات من فمه متسارعة كأنها آخر ركلة في الجزاء:
_ بين المصوغات قلادة نقش عليها اسمي.
_ إنها هي هي، لقد وجدتها ملقاة على بعد ١٠٠ متر من القاطع الذي كنت أحرسه.
_ وهل سترجعها لي؟!
_ طبعاً إنها لك! وماذا سأفعل بها إذاً؟
قالها محمد والضحكة قد تموجت في تعرجات وجهه الباسم. في لحظة خاطفة ظن شادروان أنه يسرح في عالم جميل، كأن حرباً لم تنشب، وهجراً لم يحصل، وعزيزاً لم يفقد، بل وكأنه وجد وطناً يحتظنه من جديد.
تحولت رائحة أكوام القمامة المتكدسة على بعد أمتار منه إلى نفحات أحالت جو المخيم الموحش إلى جنان أبدع خالقها في إنشائها، وأخذت زغاريد الفرح تحوم حوله من كل مكان، ألقى بنفسه على الجندي محمد كاظم والي العتابي، يقبله تارة وينزل إلى قدميه تارة أخرى.
كانت شمس الأصيل ترسل آخر أشعتها الخجولة وهي تغمز ستار الليل لينسدل على جدائلها الذهبية ويحجبها بدثاره الأظلم، بينما أخذت طيور الحمام تحوم في كبد السماء محلقة وكأنها انتهت تواً من عرض سجلت فيها البطولة هذه المرة.
اضافةتعليق
التعليقات