لم يكن حلمها سراباً، لقد أحبته فعلاً بكل جوارحها، لم يكن يومها يمر لو لم ترَ وجهه وتسمع ضحكته الموسيقية.
أذكر تلك الظهيرة ولا أدري ماذا أسميها، الظهيرة المشؤومة؟ أم الظهيرة التي أشعلت مشاعري وحركت فيَّ الحياة؟! كنت ميتةً تماماً، أدبُ على وجه الأرض بلا مشاعر ولا أحاسيس، أفتقد جميع العواطف؛ عاطفة الأمومة والأبوة والأخوة ووو.. محاطة بالجميع وكأنهم لا شيء لا أحد يهتم بي (وجودي وعدمي سواء) هذا ماصرح به أحدهم ذات مرة!.
رغم مشاعري الفياضة اتجاههم ولكن كانوا يقابلونها بجدار من الصمت المؤلم، اضطررت أن أفتش أوراقي الثبوتية لكي أتأكد هل أنا أعيش في عائلتي أم أنا فتاة أنتمي لعائلة أخرى أو عالم آخر، كنت متفوقة دراسياً وذلك الأمر لم يكن يهتم به أحد من العائلة، أعشق الأشغال اليدوية وإعادة التدوير، كنت أصنع من الشيء المحطم كقلبي شيئاً جديداً يبهر الناظرين، أعتقد أن هذه الهواية ساعدتني كثيراً في اعادة تدوير روحي التائهة المحطمة، كل الأشياء تشعر بها هينة إذا كنت في وسط يشعرك بالحب، فالحب هو الحياة، لا ذنب لي أني ولدت في عائلة محطمة كل فرد فيها يعيش عالمه وأمنياته الخاصة.
أذكر أمور بسيطة لو قصصتها لكم ستنفجرون ضاحكين وتقولون أنها أمور بسيطة ولكن تلك الأمور أحدثت شرخا عميقا في قلبي وولدت لديَّ شعورا لا أقدر أن أصفه، شعور بالانتقام والحقد والكراهية أو لا أعرف ماذا هو ذلك الشعور بالضبط!.
الكل يعرفني بهدوئي واني إنسانة مسالمة لكن داخلي يعج بالعديد من الأصوات الشريرة والمؤذية التي لو يسمعها من بجانبي قد يقرر الفرار على البقاء حفاظاً على حياته!، إلا هو قد سمع مني كل شيء حتى أصواتي الداخلية المخيفة ورغم ذلك قرر البقاء معي والتواصل عبر تلك الشاشة التي قررت أن أجمع النقود لمدة عامين لشرائها بحجة الدراسة.
تلك الشاشة غيرت عالمي إلى الأبد تعرفت فيها على ذلك الشاب وبما أن لكل فرد من عائلتي عالمه الخاص فلم يشعر أي أحد بانطوائي في تلك الغرفة لساعات طوال!.
أربع سنوات مرت منذ أن كلمته في تلك الظهيرة، أعجبت بصوته وكلامه وكل شيء، كنت بأمس الحاجة لمن يسمع لي وأبوح له بدواخلي وكان هو الحل الأمثل كما تصورت، لم أستطع أن أرفض طلبه في فتح الكاميرا والتحدث كان ذلك ماكنت انتظره أن يفاتحني كي يراني وجهاً لوجه، بعد مرور سنة من المكالمات الصوتية، اتفقنا أن يرى كل منا الآخر وفتحت الكامرا، رأيت وجهه لأول مرة، شاب عشريني جميل، أكثر شي جذبني إليه عينيه العسليتين ووجهه الذي تكسوه سُمرة خفيفة زادت من جاذبيته، كنت أنا على أعتاب دخول الجامعة وكان هو في السنة الثانية منها.
لم يطلب مني يوماً شيئاً بذيئاً، كل علاقتنا كانت قائمة على الحب والتفاهم والانسجام حتى بعد دخولي الجامعة لم تتغير فكرتي اتجاهه كونه هو الشخص المناسب والذي تتمناه كل فتاة أن يكون شريكا لحياتها، لكن شيء واحد استغربته منه هو أنه كان يرفض أن نلتقي في أي مكان ويصر أن يكون تواصلنا عبر الفيس بوك فقط الذي كان بذرة تعارفنا منه، أصريت أكثر من مرة على اللقاء لكن دون جدوى، بدأت الحيرة والقلق تسري في داخلي هل يريد أن يتسلى معي فقط؟ هل سيستدرجني لإقامة علاقة معه من نوع ما؟.
هذه بداية السنة الرابعة لهذه العلاقة الغامضة ولم يحدث شيء إلى الآن سوى بضع كلمات خجولة وحكايا عائلية ومشاكلي وهمومي التي أصبحت هذه العلاقة أحدها، إلى أن جاء اليوم الموعود، أرسل لي رسالة كتب فيها: (غاليتي أعلم أن الأفكار تدور برأسكِ لماذا لا نلتقي ولماذا ووو... سوف أجيب على أسئلتك عندما نلتقي في حفل تخرجي الأسبوع القادم إن شاء الله. المخلص لكِ مدى الحياة).
لا أكاد أصدق ما رأته عيناي، قلبي يقفز من الفرح وعيناي تدمع للقاء أعدُ الساعات والثواني، ترى ماذا سأكلمه وكيف سيقدمني لزملائه في الجامعة هل يطلق عليَّ صفة خطيبته؟ أم سيقول لهم أني إحدى أقربائه؟
ماذا سيلبس، هل أجده شديد الأناقة أم لا يهتم لهذه الأمور؟
لا أعرف شعرت بشعور غريب أن بهذا اللقاء ستكون نهايتي، ولكني طردت هذا الشعور بابتسامة وشرعت باختيار ملابسي التي سألتقي بها معه.
جرت محاولاتي أن يكون لباسي محتشماً نوعاً ما وجميلاً في الوقت ذاته، اخترت الألوان بعناية ورتبت كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة منها حتى كلماتي بِتُ أنتقيها وكأني سأذهب لإلقاء خطبة أو قصيدة، طردت تلك الكلمات وقررت أن أكون أكثر عفوية وأن أعود لسجيتي..
حان اللقاء في قاعات الاحتفال، دخلت وقدماي تمشي على وجل أعرفه حق المعرفة حفظت تقاسيم وجهه، عيناه، ضحكته، لماذا لم يتقدم كي أراه بسرعة، وجوه كثيرة وعليَّ أن أدقق بكل منها إنه أمر متعب..
سمعت اسمه في مكبر الصوت بأنه الأول على دفعته وكان صوت التصفيق عالياً وحشود تهنئ شخصاً ما، حاولت أن أراه لكنه كان محاطاً بالكثيرين من زملائه.
كان هو بينهم، الكل يبارك له مجهود السنين ما إن انبرى عنه معظم المهنّين حتى شاهدته، كانت صدمتي كبيرة جداً فوق ما تتخيلون بكثير، صرخت بأعلى صوتي عند رؤيته، أغمضت عيناي تمنيت أن يوم اللقاء كان حلماً فقط لكنه مع شديد الأسف كان حقيقة، لم تعد قدماي تحملاني جلست على الأرض، أتى لي سعياً بكرسيه المتحرك أمسكت مقبض الكرسي ولم أعد أشعر بشيء.
استيقظت وأنا في المشفى محاطة بعائلتي وأخيراً شعروا بي وبآلامي المتكدسة، قررت أن ألغي تلك العلاقة التي بدت بكذبة، إذا كان هذا الشخص مقعداً ولا يستطيع الحركة لم تكن تلك مشكلة أساسية لو أنه أخبرني في البداية لكنه كذب عليَّ تلك السنوات الطوال كذبة كادت تودي بحياتي عند اكتشافها، وقررت أن ألغي حسابي على الفيس بوك وأن أرجع إلى ربي هو خير سند ومأوى.
اضافةتعليق
التعليقات