لا يخفى على أي انسان منصف أهمية العلم وضرورة تمتّع الفرد به ولاسيما إن كان متصدياً للدعوة أو الدفاع عن دين أو فكر أو مبدأ ذاتي خاص أو مجتمعي عام.
لكن لابد لهذا العلم من ميزان ووسيلة أو أسلوب متميز لكي يصل أسرع ولمدى أوسع، ومن المقومات المهمة؛ الخُلق العالي الذي يجب أن يتحلّى به العالم، وأيضا غزارة المعلومات أو الثقافة العامة، وسرعة الجواب وحضور الفكرة التي تأتي من الذكاء والمهارة في الربط بين الحقائق وأرض الواقع أو الربط التاريخي بالقضايا العقدية أو حتى المعاصرة.
قد عالج الكثير من العلماء وناقشوا محدّثيهم بهذه الطريقة ولكن ورثة رسول الله ومعدن علمه قد أجادوا ذلك أيما اجادة، وعندما نذكر العلم يبرق اسم الامام الباقر عليه السلام وهو الذي شهد فيه رسول الله صلى الله عليه وآله الذي ماينطق عن الهوى بأنه "يبقر العلم بقرا".
وقال فيه عبد الله بن عطاء المكي: ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر، لقد رأيت الحَكَم عنده كأنه متعلم.
فلقد كان صلوات الله عليه نافذ البصيرة مليئا بالدرر والمعارف وباقر العلم وجامعه، نشر علوم الدين وأسس الحوزة العلمية وشيّد صرحها الثقافي، ربّى كادراً من الدعاة الرساليين في جميع المجالات بعد أن تفشّى الفساد الثقافي وشاعت الشبهات والانحرافات العقائدية كالزنادقة والملحدين.
وقال محمد بن مسلم: ماشجر في رأيي شيء إلا سألت عنه أبا جعفر عليه السلام حتى سألته عن ثلاثين ألف حديثاً.
ويروى أن جلس يوماً الامام الباقر عليه السلام إلى أحد علماء النصارى فقال للإمام: هل أنت منّا أم من هذه الأمة المرحومة.
فقال الامام: بل من هذه الأمة المرحومة.
فقال: من أيهم أنت، من علمائها أم من جهالها؟
فقال له: لست من جهالها.
فاضطرب اضطراباً شديداً ذلك العالم وقال للإمام: أسألك؟
فقال الامام: سل.
فقال النصراني: من أين ادعيتم أنّ أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يحدثون ولايبولون؟ وما الدليل فيما تدّعونه من شاهد؟
فقال الامام: مثل الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث.
فاضطرب النصراني ثم قال: هلا زعمت أنك لست من علمائها؟
فقال الامام: ولا من جهّالها.
فقال للإمام: أسألك عن مسألة أخرى؟
قال: سل.
قال النصراني: من أين ادعيتم أنّ فاكهة الجنة أبداً غضّة طرية موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة؟ وما الدليل عليه من شاهد لا يجهل؟
فقال الإمام: دليله أن ترابنا أبدا يكون غضا طريا موجودا غير معدوم عند جميع أهل الدنيا لا ينقطع.
فاضطرب النصراني فقال: أخبرني عن ساعة لا من ساعات الليل ولا من ساعات النهار؟
فقال الامام: هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
فقال النصراني: بقيت مسألة واحدة والله لأسألك عنها ولا تقدر أن تجيب عليها، فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما خمسون سنة وعمر الآخر مئة وخمسون سنة في دار الدنيا؟
فقال الامام: ذلك عزير وعزيرة ولدا في يوم واحد فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاماً مرّ عزير على حماره بأنطاكية "وهي خاويةُ على عروشها قال أنّى يحيي هذه الله بعد موتها".
فأماته الله مائة عام ثم بعثه على حماره، وكان عزيرة عمره مائة وخمسة وعشرون سنة، فعاشا سوية خمسة وعشرين سنة ثم قبضهما الله في يوم واحد.
فنهض النصراني وقال: جئتموني بأعلم مني وأقعدتموني معكم حتى هتكني وفضحني.
المتأمل في هذه المحادثة العلمية الجميلة، يرى كيف الامام صلوات الله عليه جمع في أجوبته عدة أمور منها: التواضع وذلك عندما فضّل الامام أن يعرّف نفسه بنفي الصفة لا اثباتها، عندما قال لست من جهالها ورفض أن يقول من علمائها وهو سيدهم بلا شك ولاغلو، وذلك لعمري قمّة الأخلاق المحدمية العلوية، وكذلك المقاربة اللطيفة بين سؤال النصراني عن أهل الجنة وأيضا فاكهتها، وكيف بيّن له الامام ذلك بتشبيه بليغ كالجنين وتراب الدنيا وهو دليل علمي وواقعي، وذلك لتتوضح المسألة وليصدّق السائل ويقتنع أكثر بالاجابة.
فلم تكن اجابات الامام نظرية جامدة بل ربط السؤال بالتاريخ الموثّق بآية قرآنية وقد لا يؤمن النصراني بكتاب المسلمين، لكنها فرصة لاثبات أن القرآن يحيط علماً بقصص الأولين والاخرين وأنه النبع الأساسي لكل الاشكالات التي ترد على ذهن وألسنة الكثير، وذلك مصداق لحديث الامام الباقر عليه السلام: إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به وإلا فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم.
صدق الشاعر عندما قال في مدح شبيه رسول الله وخازن علمه المملوء علماً:
إذا طلب الناس علم القرآن كانت قريش عليه عيالا
وإن قيل: أين ابن بنت النبي نلت بذاك فرعاً طوالا
نجوم تهلل للمدلجين جبال تورث علماً جبالا..
اضافةتعليق
التعليقات