كرم الله الإنسان بوظيفة اللسان للتعبير عن آرائه ومشاعره وفتح باب التحاور بين الآخرين، ومن خلاله تبنى العلاقات الاجتماعية وتقوى وشائج الرحمة بين المجتمع والعدل والإنصاف والتعاون, أما إذا اتُخذ اللسان وسيلة للقيل والقال والاستهزاء والفتنة والانتقاص من الآخرين، فتكثر الخلافات والكره والعداء والضغينة وانعدام الثقة.
واللسان بحسب حامله يجمع الناس على المحبة والخير ويحقق مكاسب كثيرة، أو يكون كجرح سكين تؤذي ألفاظه السيئة والطائشة، وكالسم يقطع نياط القلب لقسوته، فيضيق القلب لآلامه وحزنه وشدته، وهي أحاسيس ومشاعر تتملك الإنسان بالفطرة عند سماع الكلام الجارح والبذيء، وقد أوصى الله نبيه والمؤمنين في كتابه العزيز، سبل تجنب الألم والوقاية منه في قوله تعالى: ﴿وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّكَ يَضيقُ صَدرُكَ بِما يَقولونَ* فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَكُن مِنَ السّاجِدينَ﴾(1).
وتفسير الآية الكريمة كما جاء، (إنا نعلم يا محمد أنك يحصل لك انقباض وضيق صدر من أذاهم لك، فأوصاه سبحانه بالتسبيح والتحميد والسجدة والعبادة أو إدامة العبودية مفرغا ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففي ذلك استعانة على الغم والمصيبة، والانشغال بذكر الله وتحميده وتسبيحه).
وقال جل وعلا: ﴿فَاصبِر عَلى ما يَقولونَ وَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ وَقَبلَ غُروبِها وَمِن آناءِ اللَّيلِ فَسَبِّح وَأَطرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرضى﴾.
أي: فاصبر يا محمد على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله من قومك، وتصبر راضيا على ما قضاه الله من الأمر وتنزه عما يقولونه من كلمة الشرك ويواجهونك به من السوء.
أسباب علينا فهمها قبل أن نفسح المجال للانزعاج من ما يقوله الآخرون، الدكتورة الباحثة في علم النفس "باربرا ماركواي" تحدد الكلام الجارح من فئتين، فهناك الشخص ذو الطباع الحادة الذي يتقصد توجيه الكلام الموجع والبذيء لغيره والذي يقرع بكلامه للآخرين ويؤذيهم وهي من المؤشرات التي تدل على ما يعانيه المتكلم السيء من مرض واضطراب نفسي، ويشعر بنقص ويريد تداركه.
وهناك اللطفاء الذين لا يتقصدون الكلام والذين تنصح بتفهمه وطريقة التعامل مع الموقف من خلال فهم فكرتهم، فتقول ماركواي: إن علينا تفهم فكرة إن الناس عادة لا يفكرون كثيراً قبل أن يتكلموا. فتبدو عليهم المفاجأة عند اكتشاف بأن كلامهم قد أساء للطرف الآخر، وعادة ما يسارعون بمحاولة إصلاح الموقف وتوضيح قصدهم كي لا يستمر سوء الفهم.
ثانياً، لا يفكر الناس كثيراً ولا يعرفون دائماً ما هو نوع الرد الذي يرضي الطرف الآخر ويسعده. ففي حين يتوقع الطرف الأول رد فعل إيجابياً ومشجعاً على منتج قد صنعه مثلاً أو على أدائه في أمر ما، يستقبل نقداً غير متوقع أو طلبات لتصحيح خطأ أو تطوير جانب ما دون ذكر الإيجابيات. أي إن الفجوة في التوقعات بين الطرفين قد تخلق موقفاً غير لطيف، لذا من المستحسن توضيح التوقعات منذ البداية.
ثالثاً، عدم معرفة الناس بك بشكل كافٍ يجعلهم يغفلون –دون قصد- عمّا يزعجك ويضايقك، لذا قد يوجهون ملاحظات لك حول مواضيع تعني لك الكثير أو انتقادات حول عمل بذلت فيه مجهوداً كبيراً لم يعرفوه هم، مما يسبب لك إزعاجاً لن يفهموه هم ولن تستطيع التخلص منه أنت بسهولة. لذا فعند سماع انتقادات من الآخرين حول موضوع يهمك بشكلٍ خاص يستحسن أن توضح لهم معنى الموضوع من وجهة نظرك قبل أن تتخذ قراراً بالانزعاج.
رابعاً، تزدحم الهموم اليومية في عقول الناس جميعاً، لذلك فربما تنبع ردود أفعالهم التي تبدو لنا "مستهترة" أو "ساخرة" ومزعجة من كونهم ليس لديهم الوقت الكافي أو الجهد الكافي لبذله في التفكير في رد الفعل الذي يرضيك أو يسعدك، لذا يبدر عنهم تعليقات تبدو لك موجعة، في حين أنها صدرت بهذا الشكل السلبي بسبب الضغط النفسي أو كثرة المشاغل والهموم.
خامساً، إننا نسمح للآخرين بجرح مشاعرنا عن طريق تفسير كلامهم بأنه جارح. فبحسب رأيها، إذا غيرنا طريقة تفسيرنا لردود أفعال الناس وتعليقاتهم أو حاولنا تفهم موقفهم قبل أن نتخذ قراراً بالانزعاج، فلن تُجرح مشاعرنا.
لذلك، توصي د. ماركواي بأتباع عدة نصائح لتجنب حدوث هذه المواقف، وتنقسم هذه النصائح لقسمين، منها للمتكلم والأخرى للمستمع. فتوصي المتكلم بأخذ بضعة ثوانٍ قبل التفوه بأي جملة لأي كان، ومحاولة الأخذ بعين الاعتبار نوع التعليق المناسب الذي لن يؤذي مشاعر الطرف الآخر، إلى جانب عدم السماح للظروف الشخصية والمزاج السيئ بالتحكم برد فعلك أمام الآخرين لأنهم في النهاية لا ذنب لهم فيما تمر به.
من جانب آخر، تنصح المستمعين بعدم الوقوف كثيراً عند تعليقات الآخرين وعدم تحميلها بتفسيرات أكثر مما تحتمل. كما أن على المستمع إذا أراد رأي الآخر في شيء ما، أن يكون مستعداً فعلاً لتقبل رأيه، وإلا فليخبره مسبقاً بنوع ردود الفعل التي تناسبه، مما يساعد بتجنب المواقف غير المريحة مستقبلاً.
كيف نذلل ألسنتنا ونلجمها، وننجو من خطايا اللسان، من وصايا رسول الله (ص) إنه قال: "أخزن لسانك إِلَا من خير، فإنك بذلك تغلِب الشيطَان".
وروي أنه جاء رجلٌ إليه (ص) وقال له: "يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي، فَقَالَ: أحفظْ لسانك، قال: يا رسول الله أَوْصِنِي، قَالَ: أحفظ لِسَانَكَ، قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوْصِنِي، قَالَ: أحفظ لِسَانَكَ... وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ علَى منَاخرِهِم في النارِ إِلا حصائد أَلسنتهم؟.
وفي الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام أنه سئل عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال: "لكل واحد منهما آفات فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: وكيف ذاك يا بن رسول الله؟
فقال: لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا وقيت النار بالسكوت، ولا تجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، ما كنت لأعدل القمر بالشمس، إنك لتصف فضل السكوت بالكلام، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت3.
ومن وصية الإمام علي عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية: "وما خلق الله عز وجل شيئاً أحسن من الكلام ولا أقبح منه، بالكلام ابيضت الوجوه، وبالكلام اسودت الوجوه، واعلم أن الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فإذا تكلمت به صرت في وثاقه، فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك وورقك، فإن اللسان كلب عقور فإن أنت خليته عقر، ورب كلمة سلبت نعمة.
.........................................
اضافةتعليق
التعليقات