تعد المَعَالم الأثرية بكافة أنواعها مظهرا حضاريا مهماً اعتمدت دول وشعوب العالم تخليده وتعظيمه على طول التاريخ، فلكل بلد شخصيات أو وقائع تفتخر بانتسابها إليها أو بوقوعها على أرضها أو حتى جرائم ادانتها فتخلّد ضحاياها، وعليه يتم بناء تمثال أو ضريح أو وضع صورة وإشارة تنبّه إلى وجود شيء مهم ومحوري وقع قريباً منها، وتسعى أغلب الحكومات والمؤسسات بكل ما أوتيت من جهد فني واقتصادي واعلامي لاستقطاب الناس إليه سواء بقصد السياحة الاقتصادية أو التعريف عن هذا الأثر وانجازاته الوطنية أو الأدبية أو الاجتماعية أو العلمية.
تخبرنا الشواهد التاريخية عن مغزى بناء أي مَعلَم ورمزيته ومدى أهميته، فعلى سبيل المثال (تاج محل) يعتبر من أبرز المعالم السياحية في الهند، ويقصده الملايين من مختلف دول العالم، قد تكون قلة منهم اختاروا زيارته بسبب الطراز المعماري الفريد، فالكثرة أرادت أن ترى تخليد ذكرى الحب والوفاء والاخلاص والتي عبّر عنها الامبراطور شاه جهان لزوجته بعد أن توفيت فدفنت هناك وأوصى أن يدفن أيضا بجوارها، ومدة تشييد هذا البناء كانت22 عاما وحظي هذا المَعلَم بأن يكون أحد عجائب الدنيا السبع!.
من ضحايا الحب إلى ضحايا الحرب، حيث في ألمانيا تم بناء نصب تذكاري للقتلى اليهود في أوروبا، لتخليد ضحايا المحرقة (الهولوكست)، بلغت تكلفة البناء نحو 25 مليون يورو، وكل من يزور ذلك المكان سيشعر بجو غريب ومرعب، حيث يشبه النصب المقبرة، وهو كما يقال ومع تضارب الأرقام بأنه دُفن تحت ذلك النصب مايقارب 3 ملايين يهودي على يد النظام النازي بقيادة هتلر.
وعلى سيرة اليهود، والشيء بالشيء يُذكر، نستحضر العالم المعروف انشتاين، والذي كان من المقرر حرق جثته بالكامل بعد وفاته، إلا أن الطبيب الشرعي له أبى إلا أنْ يخرج دماغه من رأسه، ويحتفظ به في جرة بعدما قام بتحنيطه، والتبرع به أخيرا من أجل العلم، وقد تقاسم متحفين أحدهما في ألمانيا والآخر في أميركا في عرض أجزاء من دماغ ذلك العبقري صاحب جائزة نوبل والذي أغنى الكون بأبحاثه ونظرياته.
بعد تلك الأمثلة والتي اخترناها من بين مئات الآلاف من الآثار في العالم، قد نفهم المغزى والهدف من بناء بعض الأضرحة وتعظيمها، فهي بالتأكيد أكثر من مجرد مزار سياحي، بل هناك معاني عميقة فهي: ذاكرة انسانية وشاهد على الظلم فإرتباط وقضية.
أي أن هذا المَعلَم قد يكون صورة أو شكل أو رمز يفتح على طرق عدة والتي تؤدي أولاً وعاطفياً إلى تذكّر أو التعرّف على الشخصية أو الحادثة والتأثّر بها ومن ثم يتشكل ارتباط عقلاني بها وأخيراً قد تصبح أو تنجح في أن تتحول لقضية رأي أو عقيدة تُتَبنى من قبل الزائر إلى ذلك المكان وتتغير توجهاته وردات فعله وولائه، وقد نجح نصب المحرقة أيما نجاح في ذلك وبتفاصيل يضيق المقال على ذكرها.
ومن ناحية أخرى، أنت إنْ نظرت إلى لوحة جميلة وتأثّرت فقد تولد احساس لديك، والاحساس كما يقال هو روح الفن، وعليه، تحتفظ الشعوب بما يلهمهم ويذكّرهم بروح العظمة والابداع والتضحية فيكون ذلك الأثر رمزاً لذلك العظيم.
وفي مقابل ذلك، منيت الحضارة الانسانية ببلاء تمثل بفكر متخلف ورجعي، يرى في تلك الشواهد كفر وبدعة والسبب الأساسي في معارضة وجودها ليس ذلك فقط بل هو الخوف والضعف أمام قوة تلك الأضرحة، وكانت النتيجة سرقة تلك الرموز أو تهديمها وطمس معالمها.
وعلى طول الزمان شهدنا الكثير من هذه الحوادث أو الجرائم التي لاتحترم مقدسات الاخر وحريتهم في أن يكونوا على أي شاكلة سواء في حياتهم أو بعد مماتهم، ونذكر منها تهديم داعش الارهابي للآثار في سوريا والعراق بعد سيطرتهم على مناطق منها. وعلى سبيل الطرفة يقال أن في ثورة مصر قد تم وضع الحجاب على رأس تمثال المغنية أم كلثوم في أحد مدن مصر بعدما فشلوا كما يبدوا في تخريبه!.
مع بالغ الأسف هوية تلك المخربين في الغالب إن لم يكونوا من اللصوص فهم مسلمين أو بالأحرى يُحسبون عليهم، وجذور تلك الأفكار الاجرامية تعود إلى فترات تاريخية متقطعة، ومن الجرائم التي تمخضت عن ذلك الفكر هو حادثة تهديم مراقد البقيع والعصابة كانت ممن يتبنون الفكر الوهابي التكفيري.
مع العلم أن التراث المهدم في البقيع ليس فقط ديني بل وفكري وانساني وعلمي، فتاج محل عبّر عن قيمة الحب ونصب المحرقة عن أثر المظلومية ودماغ العبقري عن أهمية العلم، وغيرها الكثير مما تعبر عن قيم مختلفة، أما أضرحة الأئمة المهدمة في المدينة فهي تعبر عن كل ذلك بل وأكثر وأسمى بكثير.
تلك مراقد لأبناء خير من وطأ الأرض، شرّفهم الله وكرّمهم في الدنيا قبل الآخرة، وأقل شيء يستحقونه بعد حياتهم هو بناء ضريح يضمّهم وترتفع القباب المذهبّة فوقه.
ومع أنَّ قضية المطالبة بإعادة بناء تلك المراقد قد تنجح بالمساعي الحثيثة وأدوات الضغط المختلفة إلا أنها ليست بسهلة، فالمكان الجغرافي والنظام السياسي الحاكم هناك والتدخلات وغيرها عوامل تجعل منها صعبة أكثر. إذن بنسبة كبيرة هل نستطيع القول بأننا وأمام الأيادي السياسية ما بيدنا حيلة؟!.
فما هو دورنا ومسؤوليتنا في قبال ذلك؟
الجواب على ذلك هو محل الشاهد في مانريد أن نلفت إليه، فوجود القبة والمنارة والصحن _مع أهمية وجودها بلاشك_ لايكفي، فنحن كثيرا مانزور مقدسات المعصومين وكأنها قبر لميت عظيم ترك أثراً خالداً ومضى، فبقي هذا المعلم الأثري ليس إلا!.
فنحن هناك وكأننا نزور البقيع المُهدم مع بعض الحسرات الاضافية بسبب الظلم والتهميش الحاصل لهم، إلا أن جوهر الزيارة يجب أن يكون فوق ذلك، نعم المكان المادي والمظهر المحيط به مهم جداً في إيجاد حالة معنوية للزائر، لكن هذا وحده لايكفي، وإلا فهناك روايات في زيارة الحسين الشهيد تقول باستحباب الغسل والصعود لسطح الدار والقاء السلام عليه بتوّجه وهذه تعد زيارة له عليه السلام.
قد يكون ذلك الغريب البعيد قد اتقدت روحه أكثر من ذلك القريب ذو الاشعاع الخافت مع الامام!.
جوهر الزيارة هو تعميق المعرفة والارتباط القوي والسير على منهج صاحب الضريح، دورنا إذن هو بناء جسر تواصل وإنشاء علاقة من الأفضل أن تنشب جذورها في الفؤاد منذ الصغر، وهو أقوى رد لأولئك المجرمين الذين حاولوا بجريمتهم اخفاء أنوار أهل البيت، وهو أقل واجب أيضا نستطيع تقديمه امتنانا لأولئك الأطهار.
نحن نقوى على إعادة بناء تلك الأضرحة المقدسة في تربة القلب، وأن نشيّد أجمل القبب وأعلى المنارات، وذلك عن طريق السير بمنهج وأخلاق أصحابها وأن ننادي بمظلوميتهم ونطبق مبادئهم حتى نمهد لظهور من سيبني تلك المراقد بيديه الشريفتين.
اضافةتعليق
التعليقات