إنْ جُرِّدَ الجندي عن سلاحه في ساحة المعركة، سيُهزم أو يقع في الأسر أو يموت أو يُصاب بالعطب أو يستسلم ويخاف فيخون وطنه، وهكذا الولاء، هذه القيمة العليا المزروعة في ضمير الانسان هي كالسلاح الذي يشكل محور في الانتماء والحب والقتال والدفاع من أجل أي قضية.
فالولاء يمنحك القوة والصبر والوفاء والمثابرة ويعطيك الهوية والارتباط ويُحمّلك همّاً حلواً ومسؤولية صعبة، ومن دونه ستعيش التمزّق والضعف والأنانية والتأخّر.
وبما أننا نعيش في وسط تتعدد فيه الأديان والمذاهب والقوميات والعشائر، فنحن بلاشك نملك ميزة جميلة أو مشكلة عويصة يطلق عليها: تعدد الولاءات.
وهذا معناه أنَّ هذه الظاهرة قد تكون إيجابية وقد تصبح سلبية وذلك حسب المجتمع وتفكير أفراده وطبيعة سلوكياته المنطلقة من ولائه، فعلى سبيل المثال (سويسرا) التي تمتاز بتنوعها الديني واللغوي الكبير هي بلد متماسك ومتطور ويعيش مواطنيه بسلام ومحبة، وهي من أغنى البلدان في العالم، لأن نظامه قائم على أساس احترام الأقليات وعلى الديمقراطية المباشرة، ورغم اختلاف الهويات إلا أن المصلحة المشتركة تجمعهم.
أما بلداننا العربية والاسلامية فجلّها _ولنقل تلك التي تضم هويات متعددة_ تعيش الحروب والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصراعات المذهبية وحتى الحزبية.
إذن، فالمشكلة ليست بوجود الظاهرة بل بالتعامل معها، وإلاّ فالواقع يقدم نماذج لبلدان وشعوب نجح أفرداها في السير جنبا بجنب رغم اختلاف خلفياتهم وبالتالي ولاءاتهم لها.
هذا في حال كان الأفراد مختلفين فيما بينهم جذرياً وبأمور عديدة، ولكن ماذا لو رأينا من يعيش تعدد الولاءات رغم القواسم المشتركة الكبيرة الموجودة، وهل نعتبرهم هنا أمام أزمة خطيرة أم سُنّة حياتية من الطبيعي انتشارها؟!
فمثلاً الشيعة في العالم، كما هو معروف رغم اتفاقهم بالكثير من الاعتقادات إلا أنّ ولاءاتهم في الوقت الحاضر تتعدد، فهل هي ظاهرة سليمة أم غير صحيّة؟!
الإجابة قد تتشعب وتطول، ولكن نحاول إضاءة جانب من جوانبها، فنقول؛ إنَّ وجود هكذا تساؤل بحد ذاته هو مشكلة، فالأصل يجب أن يكون ولاء واحد لشخص واحد أو فكر واحد ألا وهو منهج محمد وآل محمد، وكل الأئمة وباتفاق الجميع هم ذات النور وإن تعددت أشكاله.
فعندما نقول أنَّ ولاءك لذاك العالم مثلا، فهنا قد تشكلت هوية منفصلة، قد تسبب أحياناً تشتتاً غير محمود، أما مسألة اختلاف وتعدد المرجعيات فهي بلاشك عامل إغناء وتنوّع علمي وفقهي، فالآراء عند الكثير من العلماء في بعض الأماكن تتباين، ودليل ذلك قول الامام المهدي عجل الله فرجه الشريف: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم".
فالذي نريد التأكيد عليه هو أهمية توحيد الانتماء وتحديده والالتفات إلى جوهر الولاء الأساسي الذي يجب أن يكون أولاً وأخيراً للإمام المعصوم المفترض الطاعة ومن ثمّ إلى ولاته.
قد يكون الأمر سهلاً عند الذي عاش في زمن نبي أو إمام، فالنور الذي يكون من مصدر مباشر تتوضح الرؤية والطريق أكثر من غيره، لكننا اليوم نعيش في عصر إمام غائب، وذلك بحد ذاته تحدٍ وامتحان كبير جداً لشيعته، ولكنه بنفس الوقت عامل يقوّي جانب معين في وجدان الموالي المنتظِر، ألا وهو شعور الحيرة والحاجة إلى وجود الامام وهذا الشعور يجب أن يتفعّل ويترجم إلى أعمال تمهّد لظهوره الشريف ولايبقى فقط بين جنبات النفس التوّاقة إلى المصلح أو المنقذ. فرسول الله صلى الله عليه وآله يقول: "المهدي من ولدي، يكون له غيبة، وحيرة تضل بها الأمم".
وأيضا وكما ذكرنا في التجربة السويسرية، أنَّ المواطنين تعايشوا وساروا في مركب واحد وذلك لأنّ المصلحة مشتركة، وهكذا يجب أن يكون هذا حاضراً عندنا، فترتيب الأولويات يجب أن تكون لمصلحة الامام أولاً ومن ضمنها ماذا يريد منّا وكيف نمهّد لنهضته، وإن تعددت الطرق والأساليب بعد ذلك.
وإلاً فالاختلافات التي تتحول إلى خلافات بسبب الولاءات المعينة وبتعبير أدق (المتعصبّة) ماهي إلا عراقيل في طريق ظهور الامام، وفي ذلك يقول الامام المهدي: "لو أنّ أشياعنا وفقهم الله لطاعته على اجتماعٍ من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخر عنهم اليُمن بلقائنا ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا".
بكل صراحة وأسف، مساعي توحيد الولاءات صعبة، لأنَّ المصالح ليست واحدة، والشعور بالحاجة ليس شديداً، والسياسة والأحزاب تُدخل أنفها في كل صغيرة وكبيرة، ورابطة الحب ليست متينة. وبذلك قد نصبح _لاسمح الله_ ممن يقولون للامام عند ظهوره: إرجع لاحاجة لنا بك!.
وهنا نكتة مهمة ينبغي الالتفات لها على ذكر رابطة الحب، فإننا نجدها حاضرة وبقوة لسيد الشهداء في أيام زيارة الأربعين، فجميع الزوّار رغم اختلاف مشاربهم انصهروا في بوتقة واحدة وهي حب الحسين.
قد يقول قائل أنَّ رابطة الحزن أشد وقعاً على النفوس وأقوى من رابطة الفرح، ولكن للقضية المهدوية روابط مهمة، فدولة الامام هي التي سوف تحقق العدل الالهي، والمهدي المنتظر هو إمام زماننا.
وعليه، تعدد الولاءات لابأس به، إن كانت لاتلغي الأخلاق ولا احترام وتقبّل الآخر والتعايش معه، فالحياة من دون ولاء قاحلة تتلاشى سحب الحب تترى عن سمائها، وهذه الانتماءات لاضير من وجودها ولكن يجب معرفة أهمية وعمق ونفع كل منها ومعرفة ترتيبها ومدى قدسيتها وهل تصب حقاً في مصلحة وحب الإمام أم تزيدنا بعداً عنه؟!.
اضافةتعليق
التعليقات