وجود أشخاص حولي لا يعني لي شيئا، فأنا أبحث عن شخص واحد، وهوَ أنا، هنالك لحظة قد يصل إليها المرء، وأظنني بلغتها الآن وبسنٍ صغير نسبةً لعمقها، لحظة تشبه الإستسلام لكنها ليست كذلك، كل يوم ينقضي لأنام وأصحو فأجد براهينا في رأسي تجددت وكأنني غائبة عن الوعي في الأمس، كل شيء بالأمس كان خديعة مدروسة ووهم والحقيقة الوحيدة هي أنني الآن مستيقظة وأتنفس وذلك الخائف بصدري ينبض من جديد وحقيقة أخرى يخبأها يومي هذا وربما تستحق..
العمر مجرد أرقام تسير عبرنا بتثاقل فتوقد شمعة في كل عام بذات اليوم الذي ولدنا فيه، نركز أحيانا به فنجد أننا لم نولد في هذا اليوم بل كل يوم لنا ولادة جديدة إما من رحم معاناة أو سعادة تختم على جباهنا لتذكرنا؛ هنا كنت سعيدا حتى لا تنكر مستقبلا أنك لم تواجه السعادة في يوم من أيام حياتك، وتبقى هي مجرد أرقام لكن الروح هي التي تحدد عمرك، فذات يوم صادفت شيخا عجوزا يتكئ على الحائط بينما هو في الأربعين ولكن بياض الشعر والتجاعيد خيلت لي أنه سبعيني، وآخر تجاوز الخمسين وشبابه يزهو وروحه تقول هل من مزيد..
كل الوقت سيمضي حتما لكن تذكر أنه عمرك فلا تترك هما ينام على صدرك، أطرده وقل له: لي رب كريم، بينما في هذا العمر أيضا ستدرك كل يوم ولادة إدراك جديد لتنظر لنفسك بعد عام وكأن كل مامر لايخصك.
فكلنا قابع بين بوح وكتمان وكلنا ذائب من ألم يصرخ في داخله، وذاتنا تخبئ أشياء في حياتنا، نعتقد أننا على صواب بينما نحن بعيدين كل البعد عن الصواب، نفسر كل مايمر بنا بتفسيرات وجدانية خالية من العقل أو أغلبها، وكأن الضمير فينا يعاتب أصما ويطلب حديث عقل من أبكم فلا يتصدر سؤال العقل في أذهاننا: (هل جاءوا لأننا نحن أم لأنهم تائهون ولايعرفون سوى عنواننا).
وما زلت في كل يوم تتغير معتقداتي وينضج تفكيري وأدرك أكثر من ذي قبل، كما أدركت أن فاقد الشيء يعطيه على عكس الأقاويل، والكتاب قد يختلف عن عنوانه؛ فبعض الكتب تحمل عنوان الدم وفيها جمع من الأمل بينما بعضها على العكس منها، وأدركت أيضا أن السكوت ليس علامة الرضا فكم من سكوت أفقدني أمنيات ورماني بعوالم لم أشأ يوما التواجد فيها، أدركت أن رضا الناس ليست غاية واننا أولى بأنفسنا من غيرنا فلا أحد سيشاركني قبري ولا شخص يحمل حزني سواي.
نعم كبرت وتعلمت أن بإمكاني أن أدخر المال وشراء لحاف لأمد قدمي كما أريد ولا أجبر نفسي على التأقلم بشيء يؤذيني أو يجعلني أنكمش من الداخل بحجج أو أمثال توارثناها ولاندرك مدى صحتها، وحتى اليد الواحدة تصفق ليس المهم أن يكون الكثيرين معك لتصبح إنسانا يكفي أن تؤمن بنفسك لتكون عنصرا فعالا سعيدا..
كبرت كثيرا لدرجة أنني تعلمت أن الصلابة لاتعني القوة فكثيرون هم من كسرتهم الدنيا برمشة عين ولا ذكر طيب لديهم عند الناس ليقدموا لهم المساعدة حتى، وأيضا عرفت أن الطيبة ليست غباء لكن لها حدود فلا تقتل نفسك بالطيبة ولاتكن صلبا لا مجال فيك، والأهم أنني تعلمت أن لا أكون تابعا لأحد وأن أشق طريقا ثالثا بين طريقين أرغمت عليهما، فحقا لا أحد يفهم معنى أن تقابل الصدمات بذاك الصمت التام الذي يقطع أوتار كلماتك أو أن تعرض ابتسامتك أمام المواقف التي كان يجب أن تبكي فيها، ولا أحد يفهم معنى أن تغلي في داخلك وأنت بقمة الثبات بينما الزجاج داخلك تناثر واللهيب يذيبه وتتأجج فيك حمم الألم.
مع كل يوم يمر وتتعلم فيه أنك تغيرت، ستجد أن الشجرة داخل قلبك سجلت هذا، فتمسّك بالأوراق الخضراء وأترك تلك التي تحمل سمات الخريف تسقط، وإحذر أن تصدق أنك أدركت كل شيء فهذه أوهام، فكل يوم ستدرك أنك تغيرت كثيرا عن ذي قبل وربما بعد عام ستنظر لنفسك لدرجة أنك لن تعرفها وإن شاء الله للأفضل إن آمنت بذاتك أنها تستحق الأفضل، بعد تفكير طويل، حالِك السواد، أقول: آن الأوان، للبراثِن التي تحتل جزءًا من أجسادنا أن تظهر، وآن الاوآن لموتانا أن تُدفَن.
قال وليد الكعبة الإمام علي عليه السلام:
(كن كما تكن ولا تكن كما يكونون
ولا تقل ماتسمع ولا تسمع مايقولون
وكما ولدت باكيا والناس حولك يضحكون
فمت ضاحكا والناس حولك يبكون).
اضافةتعليق
التعليقات