حينما تستلقي خرزها الملساء في باطن الكف وتتوغل حباتها بين الأصابع يبادلها اللسان بترتيل التسبيحات همساً أو جهراً تلقائيا, اختلفت ألوانها واشكالها واحجامها غير أن قيمتها لم تتغير, اقتناها الفقير والغني، المثقف والجاهل, كما انها ما زالت تتصدر المرتبة الأولى لأصحاب المحال لذوي الإختصاص.
اصلها وتراثها
السبحة أو المسبحة صناعة لها تاريخ عميق, فقد ورد في روايات مختلفة منذ آلاف السنين انه عثر إنسان الكهف على أحجار ملونة، سحرته بجمالها وألوانها وبريقها، فثمة دلائل اثرية تشير إلى أنه بدأ في تجميعها والتعامل معها نظراً لجاذبيتها، فمن أقدم الأحجار والمواد التي استخدمها الإنسان، ما عثر عليه في قبور ترجع إلى أكثر من 20 ألف سنة واحتوت على حبيبات من الأحجار والأصداف والعظام• .
لذا نجد في معظم الرسوم التي تصور الإنسان البدائي، يرتدي قِلادات من العاج والعظـام، بما يوحي أن فكرة المسبحة تطورت من قلادة إلى مسبحة, وبدأت عند السومريين ثم انتقلت إلى بقية الحضارات الأخرى كالفارسية والهندية، وثمة اعتقاد بأن أوائل المسبحين في الإسلام، كانوا يستخدمونها سراً وجهاراً لتسبيح الخالق، وبذلك انحصر استخدامها آنذاك في الإطارين الديني والحسابي, كما تذكرها مراجع الكتب.
مصدر رزق
ومع تقدم الأزمان تعددت انواع السبحة وتصاميمها وحتى استخداماتها فهناك من يضعها كزينة بأحجار كريمة في غرفة الضيوف أو الجوامع, ويقتنيها كعادة أو موضة سائدة خصوصا عند كبار السن, وتستخدمها بعض النساء للتسبيح والتبرك إن كانت مصنوعة من الطين.
فقد اقتضت لسنوات وما زالت لكن بشكل ضئيل إن تكون السبحة الطينية مصدر رزق, لكثير من العوائل الكربلائية والنجفية, وذلك لتوفر الطين الحر وهو المادة الأساسية التي تدخل بصناعتها, كما كانت هناك عوائل تستقطب العاملات, لكسب الرزق.
وفي هذا الجانب حدثتنا الحاجة ام جلال عن تجربتها في مشروعها الذي اندثر مع تقدم السنوات قائلة: "يحزنني كثيرا انقطاعي عن العمل في هذا المجال فقد انتعش السوق بالكثير من انواع السبح حتى دخل المستورد, وما يكدرني هو قطع رزق الكثير من العاملات اللواتي يعملن عندي, وايضا الثواب الذي تجنيه العاملة ونحن ايضا فهي تعمل بتربة مقدسة تصنع منها مسبحة يقتنيها الفرد من أجل أن يتلو بها التسبيح بعد اتمام الصلاة أو بوقت فراغه, كما كانت لها خاصية مميزة لدى الزوار الأجانب بأخذها كهدية لذويهم فتكون خير ما يقدموه سبحة مباركة من أرض كربلاء".
وعن كيفية صناعتها قالت: "تُصنع السبحة العادية من ( 99) حبة (خرز) وفقاً لعدد أسماء الله الحسنى مثقوبة يجمعها خيط يمرر من خلال الثقوب في الحبات لتشكل حلقة، وهي مكونة من رأس السبحة ويسمى "المئذنة"، وبالعادة يعلق عليها شرابة نسيجية أو معدنية, والشاهدان الفاصلان اللذان يختلفان عن باقي الخرزات، الأول منه يكون موضعه بعد الخرزة الثالثة والثلاثين، والثاني بعد الخرزة السادسة والستين".
من جانبها قالت احدى العاملات: "عملت في هذا المجال منذ صغري وكنت اتقاضى اجر زهيد ازائه, غير اني كنت سعيدة به, كونه عمل بسيط لا يحتاج مني سوى الجهد العضلي, إلا ان العمل حاليا توقف وبشكل نهائي".
مزايا اخرى
من جهته قال الشاب مناف حسين: "لا زلت اجهل السر وراء حملي للمسبحة وما سبب تلك الراحة التي تبعثها في نفسي عند استخدامها, لكني اعتبرها مفردة مهمة من مفردات مظهري الخارجي, فأحرص أن تلاؤم هذه القطعة المهمة هندامي وكأنها جزء مهم من مكملات شخصيتي, فأنا احملها للأناقة والزينة حيث تعكس رونقاً خاصاً على مجمل مفردات أناقتي, كما أشعر بانها تمنح للرجل هيبة خاصة".
فيما اطلقت أم عبير تسمية اخرى لها فقالت: "هدية الملوك, لقد اطلقوا عليها هذه التسمية, لارتباطها بالهدية فقد اعتاد الحجاج والمعتمرين جلبها لضيوفهم كهدية قيمة".
وشاركنا ايضاً خليل الحسيني صاحب محل لبيع السبح قائلاً: "اعمل بهذا المجال منذ عشرين عام, وقد تراجع الاقبال على السبح بشكل كبير, فاتجهت الى ما يطلبه السوق المحلي, وهو العمل في بيع السبح الرخيصة والتي غالبا ما تكون غاية السياح".
واضاف: "تتنوع مصادر السبح من مناشىء مختلفة, بين ايراني وصيني وتركي وافغاني وباكستاني, واهمها السبح البلاستكية ذات المنشأ الصيني فهي تحظى بطلب اكثر لأنها مناسبة في السعر, وايضاً السبح ذات الصناعة المحلية العراقية التي تقتصر على (سبح الطين) فتكون اسعارها زهيدة جداً, وهناك بعض السواح يطلبون سبح اثرية, تكون صناعتها, روسية, والمانية, ويأتي بعدها الحجازي والمصري, وهي باهظة الثمن, ولكن لكل سلعة زبونها الخاص".
السبحة ومدلولها الديني
واخر محطاتنا كانت مع الشيخ نزار التميمي حدثنا قائلا: "يفسر المستشار محمد سامي محمد أبو غوش في كتابة الأحجار الكريمة تاريخ السبحة فيقول: إن فكرة السبحة هي تطور طبيعي وحتمي من فكرة القلادة, إلا أنه من الصعب التحديد الدقيق الزمني من تحول استخدام القلادة كسبحة.
للأغراض الدينية، إذ إن الأحجار الكريمة المصنوعة منها السبحة تتصف بالديمومة, أو تلك التي عرف عنها قوة الصلادة أو القدرة فضلا عما تخيله الإنسان من مظاهر روحانية وسحرية ألهبت حسه, كونها من المواد تتصف بالصفات الأسطورية, أو ما تعلق منها بالخرافات الشائعة آنذاك, سواء بالنسبة للرجل أو المرأة على حدّ سواء, إن للمعتقدات الروحانية والخرافات أثر واضح على الاهتمام بتلك الأحجار كل أمة حسب معتقداتها وايمانها بالخرافات والأساطير. وللمعتقدات الطبية الخرافية القديمة تفسيرات وأسباب أدت إلى استخدام الناس للقلائد الدينية, والواقع المستخلص قد تكون مرتبطة بالشعائر المتوارثة والمستخدمة آنذاك وقد تشمل العد والحساب أيضاً في عد الصلوات أو لغرض التأمل الديني".
واضاف التميمي: "اما بمنظوري الشخصي اوضح لكم ان (السبحة) بضم السين وإسكان الباء مشتقة من: (التسبيح) وهو قول (سبحان الله) أو هو تفعيل من (السَّبْح) الذي هو التحرك والتقلب والمجيء والذهاب، كما في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا﴾ كما ورد التسبيح بمعاني وأماكن مختلفة في القرآن الكريم، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾.
وتابع قائلا: "ويقول القائل الزبيدي في: تاج العروس، عن شيخه ابن الطيب الشرقي عن السبحة (إنها ليست من اللغة في شيء، ولا تعرفها العرب، وإنما حدثت في الصدر الأول، إعانة على الذكر، وتذكيراً وتنشيطاً).
وللسبحة أهمية كبيرة لدى بعض الناس قد تصل إلى درجة التقديس وربطها بأمور دينية, حيث يستخدمها الكثير من المسلمين والعرب, فضلا عن رجال الدين المسيحيين ولكن تختلف بأشكالها, فتأتي سبحة المسيحيين بثلاثة وثلاثين عقدة أو خرزة دلالة على عمر السيد المسيح حين صعد إلى السماء، وهناك السبحة الوردية التي تحوي على خمسين عقدة.
ختم حديثه: "أما بالنسبة لنا نحن كمسلمين, فنعتبرها ايضا اداة لتحقق عدد التسبيح المعروف, وهو: (سبحان الله, والحمد لله, ولا اله الا الله, والله اكبر) الذي علمه النبي الكريم محمد (ص) للسيدة فاطمة الزهراء (ع) وهذا التسبيح له آثار مهمة وعظيمة جدا على الفرد المسلم في مجال التنمية والتكامل النفساني, وورد ايضا في قصة الاسراء والمعراج ان النبي (ص) رأي بيت يبنى في الجنة لبنة, لبنة, فقال لجبرائيل لمن هذا قال: (للذي يقول سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر) وبالنتيجة فرمزية السبحة هي رمزية دينية صرفة لأداء هذه الشعيرة , قبل أن يكون استخدامها للزينة أو التجمل الذي قد يشاهد هنا او هناك لدى هذا الرجل أو تلك المرأة".
اضافةتعليق
التعليقات
2019-01-12