التسامح من الأخلاق الإسلاميّة التي يتصّف بها من كان في قلبه الإيمان الصادق؛ حيث إنّ مقابلة الإساءة بالإحسان ليس بالسلوك السهل والبسيط، وإنما يحتاج إلى امتلاك الشخص للكثير من الطِّيبة والحبّ والإيمان في القلب فالإسلام جاء ليتمّم مكارم الأخلاق، فحثّ على الالتزام بها من أجل بناء مجتمعٍ إسلاميّ قويّ، فالإنسان بطبيعته كثير الخطأ ويحتاج إلى المغفرة والصّفح عن الأخطاء، فالله تعالى الغفور الرحيم ويغفر لمن يُخطىء، فكيف لا يكون الشخص المسلم مُتسامحاً.
تخلد الأمم المتحدة اليوم العالمي للتسامح، يوم 16 نوفمبر في سياق دولي للاتسامح سمته تزايد التعصب الطائفي والعنصري والعرقي، متجسدا في الحروب والنزاعات التي تشهدها بالخصوص المنطقة العربية، وتنامي نزعة التطرف بجميع أنواعه في عدد من مجتمعات العالم، مما يبرر اليوم الدعوات الملحة للحوار من أجل تعزيز التفاهم المتبادل بين الثقافات والشعوب.
ويعود مفهوم التسامح، الذي يبدو اليوم ضائعا وسط نيران المدافع وقصف الطائرات، إلى الواجهة في هذه المناسبة السنوية التي يحتفل فيها العالم بقيم ومعاني التسامح والاحترام المتبادل بين الأمم والحضارات، ويدعو إلى محاربة روح التعصب والانغلاق والكراهية، ترسيخا للسلم الأهلي والعالمي ودعما للمشترك بين الثقافات البشرية.
ولا يزال الحث على التسامح أمرا راهنا وملحا اليوم منذ أن اعتمدت الدول الأعضاء في اليونيسكو، بمناسبة العيد الخمسين للمنظمة في 16 نونبر 1995، إعلان مبادئ بشأن التسامح، يؤكد بالخصوص على أن التسامح لا يعني التساهل أو عدم اكتراث بل هو احترام وتقدير للتنوع الغني في ثقافات هذا العالم وأشكال التعبير وأنماط الحياة التي يعتمدها الإنسان.
وينص إعلان مبادئ التسامح الأممي بالأساس على أن التسامح يعني في جوهره "الاعتراف بحقوق الإنسان للآخرين" وبما أن الناس متنوعون بطبيعتهم، فوحده التسامح قادر على ضمان بقاء المجتمعات المختلطة في كل مناطق العالم.
وأكدت مبادئ التسامح الواردة في "إعلان اليونسكو" أيضا على أن "هذا التسامح يتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد"، محددا مسألة التسامح ليس فقط كواجب أخلاقي، ولكن أيضا كشرط سياسي وقانوني للأفراد والجماعات والدول كما أنه يربط قضية التسامح بالصكوك الدولية لحقوق الإنسان التي وضعت على مدى السنوات الخمسين الماضية، والتي تركز على أهمية مبادرة الدول إلى صياغة تشريعات جديدة عند الضرورة لضمان المساواة في المعاملة وتكافؤ الفرص لجميع الفئات والأفراد في المجتمع.
ماذا يمكن أن نكسب بالتسامح
إذا امتلكنا روح التسامح اشعنا جواً من الصفاء والمودة بيننا وبين الآخرين، ولسنا في حاجة الى استعراض ما تسببه العداوة والبغضاء والشنآن بين الناس من خسائر لا يمكن احصاؤها، ان العفو والصفح والمسامحة من شيم النبلاء وأخلاق الكبار وكبار القوم عادة في مواقفهم لا في اعمارهم.
ان الشخصية المتسامحة في الفهم النفسي لها تتسم بمجاهدة شديدة للنفس والهوى وهذا من صفات القوة والرفعة والتمكن الكامل من زمام النفس وما خضوعها للتسامح الا دليل على سموها ورقتها في مقابلة الاساءة بالاحسان والشر بالخير.
ان العفو والصفح والمغفرة والتسامح لا تصدر عن بخيل او عن حاقد او جاحد قط، فاذا سامحت برهنت على النبل وعلى روحية العطاء وعلى كرم شخصيتك أن المسامح كريم وخير السخاء والكرم ستر العيوب والعفو عنها ولا تستر الا المسامحة ولا يُعفى عنها الا بالتسامح، واذا كان السخاء يثمر الصفاء فالمسامح اول من يجني هذه الثمرة لأنه زرع المحبة بسماحة الكريم فرآها صفاءً في العلاقة مع الآخر.
المسامح شجاع لأنه يقف بين خيارين، الانتقام او المسامحة، فيختار الثاني، لأنه يرى في الانتقام جبنا او رد بالمثل بينما يرى في غض الطرف والاغضاء عن الخطأ مرتبة عالية من ضبط النفس والتعالي على التهور والانجراف بل ويعتقد ان الصبر شجاعة وأن المسامحة فضيلة والشجاعة في عدم الانجرار الى نفس الموقف عزا.
التسامح في اقوال اهل البيت "عليهم السلام"
يقول الامام علي عليه السلام "أشجع الناس من غلب الجهل بالحلم" فاذا كان المسيء او المخطئ جاهلا فلا يقابل جهله بجهل ولذلك قيل: ما اشجع البريء وأجبن المسيء، واذا كان الحليم لا يعرف الا عند الغضب والشجاع الا عند الحرب فان المسامح حليم يكف غضبه شجاع يقلع عن الانتقام الذي هو سهل يسير على النفس ويختار المسامحة وهي شديدة ثقيلة على النفس لأنها خلاف هواها.
المسامح رحيم لأنه تعلم من اخلاق الله تعالى انه رؤوف رحيم يتودد الى من يؤذيه بأوليائه ومن يؤذي فيه وأنه التواب الرحيم الذي يتوب على من يعاديه ولذلك فهو يرحم من في الأرض املا ورجاءً بأن يرحمه من في السماء ذلك ان من موجبات الرحمة الالهية هي هذه الرحمة الانسانية الغاضة الطرف المتسامحة الصافحة عن اخطاء الضعفاء.
يقول رسول الله صلى الله عليه وآله "أطلب لأخيك عذرا فان لم تجد له عذرا فالتمس له عذرا" وهذا من اجمل وأفضل انواع التسامح فهو ينطلق من نظرة ايجابية للآخر ولا يحمل اساءته على انها اساءة لأنه قرر سلفا ان يتعاطى مع كلمات السوء او افعال السوء التي تخرج او تصدر عن الآخر على انها قابلة للتبرير او التأويل او ان القصد منها غير ما يبدو على السطح فلعل له عذرا وأنت تلوم.
من طبيعة الشخصية المسامحة انها تقبل عذر المعتذر بلا عنت ولا تأنيب ولا لوم بل ترحب بذلك ترحيبا حارا حتى كأن المعتذر بالنسبة لها ذو نعمة عليها يقول الامام زين العابدين عليه السلام: "لا يعتذر اليك احد قبلت عذره وان علمت انه كاذب" لماذا حتى لو كان كاذبا؟ من اجل ان يبقى الباب مفتوحا لتسوية النزاع او الخلاف فاذا ثبت ان المعتذر اعتذر ليعاود الاساءة فلكل حادث حديث وأما من حيث المبدأ فالاعتذار مؤشر على الاعتراف بالخطأ ويؤخذ بهذا اللحاظ.
ويدعو عليه السلام الى روحية التسامح وقبول الاعتذار من غير تعنيف المخطئ او المسيء فيقول: "ان شتمك رجل عن يمينك ثم تحول الى يسارك واعتذر اليك فاقبل عذره" اي لا تؤخر قبولك لعذره فلعله اخطأ ثم استدرك، اما ما هو اثر قبول العذر والتسامح او المسامحة فقد عبر الامام علي عليه السلام عنه بقوله: "اقبل اعذار الناس تستمتع باخائهم وألقهم بالبشر تمت اضغانهم".
وشدد النبي صلى الله عليه وآله على من لم يقبل المعذرة بقوله: "من اتاه اخاه متنصلا فليقبل ذلك منه محقا كان او مبطلا فان لم يفعل لم يرد على الحوض".
ان اعتذار المسيء تكفير عن الاساءة فليجد عندك عونا على غسل او محو او شطب اساءته ولا تكن انت والشيطان عونا على اخيك، المسامح يقتدي بهدي نبيه صلى الله عليه وآله لأنه افضل الهدى ويهتدي بسنته فانها اهدى السنن فلقد مر بنا كيف كان صلى الله عليه وآله يسامح المسيء ويغفر للمذنب ويعفو ويصفح عن المخطئ وكيف انه سامح قريشا التي اذاقته الوان العذاب فجعل قدرته عليهم فرصة للعفو عنهم وكيف انه سامح وحشيا قاتل عمه حمزة رضي الله عنه، وسيرته صلى الله عليه وآله حافلة بنماذج وشواهد العفو الكثيرة التي اخذها عنه اهل البيت عليهم السلام والأبرار الصالحين من ابناء هذه الأمة.
فهذا حفيده الامام الباقر عليه السلام يتعرض للاساءة من شخص ربما اراد اختبار حلمه وصبره على الأذى فاذا به ينعته بأنه بقرة فلا يرد عليه الامام بأكثر من ان قال: لقد سماني جدي رسول الله صلى الله عليه وآله الباقر ولما عيره بمهنة امه وهي الطباخة، قال له تلك هي حرفتها ولما زاد في الاساءة بقوله يا ابن الزنجية البذيئة لم يخرج الامام عن طوره بل قال له بكل هدوء ان كانت كما تقول غفر الله لها وان كانت ليست كما تقول غفر الله لك واذا بهذا اللطف والتسامح والترفع عن مقابلة الاساءة بالاساءة يفعل فعله في نفس المسيء البذيء ليتوب على يدي الامام ويشهر اسلامه.
وأمام النخب الثقافيّة تحدٍّ فكريّ ومعرفيّ، هو ان تستخرج التسامح كفكرٍ ومنهجٍ من عمق الخصوصيّة الدينية؛ ليكون التسامح مع الآخر جزءاً من تربية المسلم على اسلامه، والمسيحيّ على مسيحيّته، والمذهبيّ انطلاقاً من مذهبه، لأنّ ذلك هو الطريق الأصحّ لتحقيق التجانس بين الانتماء الى الخاص والانفتاح على العامّ؛ والا وقعنا في التأسيس لازدواجيّة في الشخصيّة، بين التربية الخاصّة المنغلقة، والنفاق السلوكي المحكوم بالظروف المتغيّرة؛ وهو ما يبقي التسامح سطحاً في الممارسة، من دون ان يكون عمقاً في الاحساس والتفاعل الانساني.
اضافةتعليق
التعليقات