لا توجد معركة بعد معارك رسول الله ﷺ مع الكفار والمشركين أعظم من معركة كربلاء مع المنافقين من أمته، ليس بسبب حجم المشاركين فيها، ولا بسبب المدة التي استغرقتها، ولا بسبب الأسلحة المستخدمة فيها، لأن كل ذلك لم يكن حاضرًا في تلك المواجهة، خاصةً وأنها كانت عدوانًا من قبل سلطة طاغية باغية مغتصِبة، على أهل بيت رسول الله ﷺ.
وإنما كانت عظمتها بسبب الأهداف التي توخّاها كل من الطرفين، وبسبب النتائج التي ترتبت على تلك المعركة. لقد كانت معارك النبي ﷺ مع الجاهلية التي كانت تنخر في كل مفاصل حياتهم: العقائدية، والاجتماعية، والسياسية.
ففي الجانب العقائدي، كان الناس يعبدون الأصنام التي ينحتونها من الحجر، أو يصنعونها من التمر، بدلًا من عبادة الله الواحد الأحد.
وفي الجانب الاقتصادي، كانت حياتهم قائمة على الغزو؛ فإذا وجدت قبيلة أنها أقوى من أخرى، أغارت عليها، وقتلت رجالها، واستباحت نساءها، وصادرت ممتلكاتها.
وفي الجانب الاجتماعي، يكفي أن نعلم أن الآباء كانوا يدفنون بناتهم أحياء.
فبعث الله نبيَّه بدين الإسلام، فغيّر حياة الناس، فأصبحوا يتنافسون على العطاء لا الأخذ، وعلى الآخرة لا الدنيا، وعلى التعاون لا التنابذ، وعلى عبادة الخالق الواحد الأحد، لا عبادة المخلوقين.
لكن بعد رحيل النبي ﷺ، عاد الناس إلى الجاهلية من جديد، وإن كان ذلك بمظهر مختلف؛ أي إن الجوهر بقي جاهليًا، لكن الصبغة تغيرت. فإذا كان شعار بني أمية في مواجهة النبي ﷺ في معركة أُحد هو: «أعلُ هُبَل»، فقد أصبح شعارهم لاحقًا هو نفس شعار رسول الله ﷺ: «الله أعلى وأجل»، ولكن بلسان يخالف العمل.
فما ضرّ الأعداء أن يغيّروا الشعار، ما دام ذلك يخدم مشروعهم الأساسي، وهو عبادة الطاغوت.
إن القوم كانوا في الجاهلية يعبدون الطغاة عبر الأصنام، وكان الطغاة يستخدمون الأصنام للسيطرة على الناس، وتوجيههم، ومصادرة مصالحهم.
أما بعد ذلك، فقد أصبح الطغاة يُعبدون مباشرة من قِبل الناس؛ فقد كانوا يُطاعون من دون الله، فيأمرون فيُطاعون، وينهون فيُنتهى عن ما نهوا عنه. وكانوا يستخدمون السلاح لإجبار الناس على الطاعة، أو يستخدمون المال لإغرائهم، فالمهم أن "الملأ" عادوا من جديد، وعلى رأسهم طاغية متكبر يحكم باسم الإسلام، ويرتكب كل المحرمات دون رادع أو مانع، خاصةً فيما يتعلق بطريقة تعامله مع الناس.
فالتظاهر بالإسلام لم يكن يضرهم، لأن الحقيقة لم تتبدل. فقد شنَّ بنو أمية حربًا شعواء على بيت رسول الله ﷺ، بيت العلم والحكمة، بيت الطاعة والأخلاق، بيت الفضائل والمناقب؛ فذبحوهم، وقطعوهم بلا رادع من ضمير، ولا مانع من اعتراض الناس.
ثم لما أصبح يزيد حاكمًا مطلق اليد، أخذ يعلن كفره بالنبي ﷺ وبدينه أمام الجميع.
ولما رأى الحسين (عليه السلام) عودة الجاهلية بكل أبعادها، دون مواربة، ودون خوف من أحد، ورأى تخاذل الناس عن أداء مسؤولياتهم في مواجهة رأس الحكم، الذي يُفترض فيه أن يُطبق دين الله، والذي لم يكن يتورّع عن ارتكاب أي جريمة، نهض الإمام لكي يؤدي دوره في هداية الناس والدفاع عن حقوقهم. لم يكن يبحث عن سلطة، ولا عن مغامرة.
وقد قال (عليه السلام):
"إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا، ولا مُفسِدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي محمد ﷺ. أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي محمد ﷺ، وسيرة أبي علي بن أبي طالب."
أي أن هدفه كان بسط العدل بين الناس. ولكن بني أمية جيَّشوا الجيوش على أهل بيت النبي ﷺ، وحاصروهم في منطقة صغيرة بين النواويس وكربلاء.
وكان عدد الأعداء يفوق عدد أصحاب الحسين (عليه السلام) بنسبة واحد إلى خمسمئة، فقد جهّزوا أكثر من ثلاثين ألف مقاتل، أي أن كل واحد من أصحاب الحسين كان يواجه خمسمئة رجل من جيش العدو.
وبنهضته، بيَّن الإمام الحسين (عليه السلام) للناس أن الدين دينان:
دين الزيف، ودين الحقيقة، دين المظاهر، ودين المخابر ، وأن دين الحاكمين ليس من دين الله في شيء، وإنما هو دين بني أمية الذين فتنوا الناس وفرضوا عليهم عبادة أنفسهم.
فوقعت المعركة بين طرفين: أحدهما يريد الناس لله، والآخر يريد الناس للطاغوت.
ومن نتائج تلك المعركة، مقتل أهل البيت (عليهم السلام) بمعظمهم، بنسبة تقارب 99.9%، بينما انتصر الأعداء ظاهريًا فقط؛ فقطعوا رؤوس الشهداء، ونصبوها على الرماح، وسبوا النساء، وأخذوهن من بلد إلى بلد، وأقاموا الاحتفالات بمقتل ذرية رسول الله ﷺ، وهم أعلم الناس وأفضلهم وأشرفهم.
لكن هذه المعركة، من حيث نتائجها، تُعد من أعظم معارك التاريخ؛ فقد أنقذ بها الحسين (عليه السلام) دين الله من أيدي أعدائه، ورمى بهم في مزبلة التاريخ، وكان ما بعد كربلاء مختلفًا تمامًا عما قبله.
فأصبح الحق أمام الناس واضحًا؛ فمن أراد أن يعبد الله عز وجل على طريقة النبي ﷺ، فالطريق مفتوح، ومن أراد أن يعبد الله على طريقة الطغاة، فهو وما اختار.
اضافةتعليق
التعليقات