هَب أنكَ تلقيتَ دعوة إفطار لمطعمٍ راقٍ يقدّم أشهى المأكولات والمشروبات، وكان نظام المطعم هو "بوفيه مفتوح"، وأنتَ صائمٌ تعِبٌ وجائعٌ عطِش، أزفت ساعة الغروب، وهممتَ بأخذ ما تُحب وتريد، ما تحتاج وتشتهي، إما أنكَ ستختار من كل وجبة القليل منها، أو ستتجه لطعامك المفضّل، أو ستنتقي ما هو مفيد صحياً لك وتترك العكس، أليس كذلك؟!
ربما نعم وربما لا، فقد يُفقدك الجوع زمام العاطفة والمنطق فتتهوّر وتملأ صحنك بل صحونك بكل ما تبصره عيناك ويلامس أنفك وقد تذهب صوب ماتلاحظ أنّ أغلب الناس قد اتجهو نحوه، فتأخذ حذوهم بلا تفكير، وأمّا النتيجة، آلامٌ في المعدة بسبب استقبالها كل النكهات دفعة واحدة، وإسرافٌ في الطعام يتبعه إثمٌ وتأنيب ضمير عند الأقليّة.
في بعض فصول هذا المشهد المتداول جداً، تتشابه أيام هذا الشهر الفضيل بالبوفيه المفتوح، فنحن مدعوين لمائدة الرحمان، وفيها ما لذّ وطاب من الغذاء الروحي والمعنوي، فكيف علينا أن نتعامل مع هذه الدعوة وهذا النظام وأصناف الأعمال المتنوعة الاوردة فيه، مع وقتنا المحدود؟!.
لا تقع في فخ الكميّة
"ادرس بذكاء وليس بتعب" نصيحة تعليمية لطالما سمعناها، ولم نفهمها كثيراً، لأنّ العقل الجمعي يقول أنّ التفوق مساوق لكثرة الدراسة، لكن الحقيقة هي أن النجاح حليف الذي يعرف كيف يدرس وعلى أي معلومات عليه أن يركز، وهكذا هو شهر رمضان، بلا شك من الجميل أن نختم القرآن أكثر من مرة، وأن نقرأ كل الأدعية، ونصلي كل الصلوات المستحبة، فالأمر هنا مُجحف إن قسناه مع الطعام والدراسة، لكن وضمن نسبة معينة، في العبادات أيضاً الكم ليس المطلوب، فمن جهة للأرواح اقبال وادبار، وفي ادبارها علينا التريّث في أداء الأعمال الكثيرة أو الصعبة، ومن جهة أخرى قد تصبح الكمية على حساب النوعية، والأخيرة هي الأهم، فما جدوى كثرة تلاوة القرآن بدون تدبّر، وتعاقب السجود والركوع والقلب ساه؟!
يعضّد هذا الرأي حديث شريف، ينقل عن الامام الصادق (عليه السلام): "تفكر ساعة خير من عبادة سنة".
هنا الامام صلوات الله عليه يبين أفضلية التفكّر على أداء العبادات، والمثال ينطبق على عمرنا كله وليس في رمضان فقط.
انتقِ ما يناسبك
عودةً إلى مثال البوفيه المفتوح، يجب أن نعرف أنّ فكرة هذا النظام صُممت لغاية معينة تغيب عن أذهاننا، وهي أنّ الهدف من وضع تشكيلة كبيرة من الأطعمة من أجل أن تناسب كل الأذواق، فما يناسب فلان قد لا يناسب آخر، سواء كان بسبب الأمزجة أو حتى الطباع الصحية.
بالطبع هناك رأي آخر يقول أنّ على المؤمن أن يجاهد نفسه ويختار ما هو صعب عليه، لكنه مستوى متقدم من الايمان والتربية الروحية نحتاج قبلها إلى مراحل عديدة، وهذا يكون على كل مناحي الحياة ومنها الدينية، ولاسيما الأعمال في هذا الشهر الفضيل.
على سبيل المثال، قد يميل شخص للعزلة في هذا الشهر أو يشعر بأنه يحتاج لها، فليتوجه للصلوات والمناجاة ولاسيما في أوقات السحر.
وهناك آخر يحب العلاقات الاجتماعية، أو أنه متمكن مادياً، ففرصة اقامة الولائم واطعام المؤمنين متاحة ومناسبة له.
وأخيراً، شهر رمضان أيام معدودات، فيه ضيافة مقدسة لا تتكرر إلا مرة في السنة، والبيئة مهيئة والأجواء تناسب الاصلاح، والتغيير، والتقرب من الله، كلٌ بطريقته، وتبقى النية والاخلاص هي المعيار الأساس للقبول.
ولا تنسَ أن تتوجه على المائدة الروحانية ومافيها فقط، وتترك الموائد الأخرى من متاجر وصفحات وفضائيات، منها الذي لا يُسمن، ولا يغني من جوع، والكثير منها يقدّم الوجبات السامّة الممزوجة بالعسل.
اضافةتعليق
التعليقات