قال الله تعالى في كتابه المجيد {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} 103 آل عمران": (وَاعْتَصِمُوا) أي تمسَّكوا والتزموا/ (بحبلِ الله) * وهو كتابه العزيز، وعترة أهلِ بيتِ نبيه، صلواتُ اللهِ وسلامه عليهم، وقوله (جَمِيعًا) أي بهما جميعا (ولا تفرقوا) * أي (ما) بينهما.
وقال رسول الله (صلى اللهُ عليه وآله) في: (ألَا وإني مخلّف فيكم الثقلين: الثقل الأكبر القرآن، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي، هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عزَّوجلَّ، ما إن تمسكتم به لم تضلوا، سبب منه بيد الله وسبب بأيديكم". وفي رواية أخرى: "طرف بيد الله، وطرف بأيديكم، إن اللطيف الخبير قد نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كإصبعي هاتين - وجمع بين سبابتيه -، ولا أقول: كهاتين - وجمع بين سبابته والوسطى - فتفضل هذه على هذه". (كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني - ج ١ - الصفحة ٤٨.
فما هو ذلك "الحبل" الذي أشار إليه الله تعالى في "واعتصموا بحبل الله.."؟ / وما هو الثقلان اللذان أشار إليهما الرسول الكريم في حديثه "اني تارك فيكم الثقلان..؟ / وهل من علاقة بينهما ؟، وما سر التعبير ب"الحبل"؟.
لو رجعنا وتمعنا في آيات القران الكريم وما جاء في بيانات من عندهم علوم الجزالة والفصاحة والبلاغة والبيان، أئمة الهدى ومصابيح الدجى (صلوات الله وسلامه عليهم)، لوجدنا هناك الكثير من القرائن التي تؤكد بملازمة ومرافقة ومصاحبة القرآن مع العترة، والعترة مع القرآن.. علي مع الحق والحق مع علي وفي رواية أخرى علي مع القران والقرآن مع علي..
و"حبل الله" الذي يشير إليه القرآن الكريم هو: "الثقلان"، وصفهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديثه بحبل ممدود بين السماء والأرض، له طرفان، طرف تستمسك به الأُمّة (المصحف/القرآن)، وطرف آخر بيد الله تعالى، عَبر عنه في القرآن ب(إِنَّه لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ . لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُون ..)77-79 الواقعة / (بَلۡ هُوَ قُرۡءَانٌ مَّجِيدٌ ، فِى لَوۡحٍ مَّحۡفُوظِۭ) 21/ 22 البروج / و(.. وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59الأنعام). / و (وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ ٱلْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ ٱلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ)31الرعد .
ولذلك (القرآن/ المصحف) وجودًا علويًا غيبيًا غير ما تنزّل منه، لا يصل إلى حقيقته وحقائق ذلك الوجود غير المطهّرين وهم الموصوفون بالطهارة كما في قوله تعالى: (إنّما يريد اللهُ لِيُذْهِبَ عنكمُ الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطهّرَكم تطهيرا)33 الأحزاب .
فمن يُفرِّق بينهما بين (القرآن والعترة) أو يعتمد أحدهما دون الآخر، فقد تاه وضل وهلك وأهلك. كما ذهب إلى ذلك مَن اعتمد وتمسك بمنهج "حسبنا كتاب الله"، وهمل وغيّب "الثقل الآخر/ "عترتي" الذين أوصى بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وطَهَّرهم الله تعالى في كتابه المجيد وقال {..لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} ، فهم "الكتاب المبين" "والحبل المتين" و"الراسخون في العلم" ،"والصراط المستقيم" ،"ومن عندهم علم الكتاب كله"، وهم "القرآن الناطق" المبيّن والمفّسر لجميع ما في بطون ذلك "القرآن الصامت/ المصحف" ، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليهما): إن الله تبارك وتعالى طَهَّرنا وعَصَمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحُجَجا في أرضه وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا.
وجميل ما أفادتنا به أحاديث بيت النبوة ومعدن الرسالة حول "حبلُ اللهِ المتين". هو ما رواه العلاّمة البحراني (قده) عن محمد بن إبراهيم النعماني، في كتاب (الغيبة) .. عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:
وَفد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أهل اليمن، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم):
جاءكم أهل اليمن يبسون بسيسا، فلمّا دخلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال قوم رقيقة قلوبهم، راسخ إيمانهم، منهم المنصور، يخرج في سبعين ألفًا، ينصر خلفي وخلف وصيي حمايل سيوفهم المسك.
فقالوا: يا رسول الله ومن وصيُّك؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): هو الذي أمركم الله بالاعتصام به، فقال عزّ وجلّ: (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا).
فقالوا: يا رسول الله بيّن لنا ما هذا الحبل؟
فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): هو قول الله: (إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاس). فالحبل من الله كتابه، والحبل من النّاس وصيي.
فقالوا: يا رسول الله ومن وصيّك؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): هو الذي أنزل الله فيه: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حسرتي عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ).
فقالوا: يا رسول الله وما جنب الله هذا؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): هو الذي يقول الله فيه: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا).
هو وصيي السبيل إليَّ من بعدي.
فقالوا: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق أَرِنَاه، فقد اشتقنا إليه.
فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): هو الذي جعله آية للمتوسّمين، فإنْ نظرتم إليه نظر من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، عرفتم أنّه وصيي، كما عرفتم أنّي نبيّكم.
فتخللوا الصفوف، وتصفّحوا الوجوه، فمن أهوت إليه قلوبكم فإنّه هو، لأنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاس تَهْوِي إِلَيْهِمْ) .(يعني) إليه وإلى ذريته.
ثم قال: (يعني: جابر بن عبد الله الأنصاري): فقام أبو عامر الأشعري في الأشعريين، وأبو غرة الخولي في الخولانيين، وظبيان وعثمان بن قيس، وعرثة الدوسي في الدوسيين، ولاحق بن علاقة، فتخلّلوا الصفوف وتصفّحوا الوجوه، وأخذوا بيد الأصلع البطين، وقالوا: إلى هذا أهوت أفئدتنا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): أنتم نخبة الله حين عرفتم وصي رسول الله، قبل أنْ تعرفوه، فبم عرفتم أنه هو؟
فرفعوا أصواتهم يبكون، وقالوا: يا رسول الله نظرنا إلى القوم فلم نبخس، ولمّا رأيناه رجفت قلوبنا، ثم اطمأنت نفوسنا، فانجاست أكبادنا وهملت أعيننا، وتبلجت صدورنا حتى كأنّه لنا أب، ونحن عنده بنون.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): (وما يعلم تأويله إلاّ الله، والراسخون في العلم).
أنتم منه بالمنزلة التي سبقت لكم بها الحسنى. وأنتم من النّار مبعدون.
فقال (يعني: جابر): فبقي هؤلاء القوم المسلمون حتى شهدوا مع أمير المؤمنين الجمل، وصفيّن، فقُتلوا بصفيّن ـ رحمهم الله ـ.
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) يبشّرهم بالجنّة، وأخبرهم أنّهم يستشهدون مع علي بن أبي طالب -(صلوات الله وسلامه عليه)- كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني - ج ١ - الصفحة ٤٤/ في البحار: يبشون بشيشا. من البشاشة: وهي طلاقة الوجه
نستخلص من ذلك أن أعظم افتتان وبلاء يمتحن الله تعالى به جميع خلقه حتى يوم القيامة، هو الافتتان بطاعة وولايةِ (حبلُ اللهِ المتين)، ومَن قال فيه (إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)، والبراءة من أعدائه.
فكما كانت هناك فئة نقية طاهرة لم تَعرف سوى مودة قربى النبي (صلى الله عليه وآله)، هوت إليه بقلوبها الرقيقة واهتدت إلى معرفته ببصيرتها الراشدة، فكانت من الفائزين .
كانت هناك أيضًا فئة جهولة تعيسة لم تهتدِ إلى معرفته، بقيت وعاشت العمر كله في ظل وبركة ذلك "الحبل المتين" صلوات الله وسلامه عليه، وهو يردد فيهم (سلوني قبل أن تفقدوني فأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض/ فيأتيه متخلف من قومه عقلًا ودينًا ويسأله كم شعرة في أم رأسي)!، ومولاتنا فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) توصيهم به وتقول ب(طَاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ وَإِمَامَتَنَا أَمَاناً لِلْفُرْقَة) فيتفرقوا عنها وعن طاعتها وعن طاعة بعلها علي أمير المؤمنين ويتأمروا على قتلهما ويحرقوا عليهما دارهما.
عاشوا في غفلة عن أئمة زمانهم "حبل الله المتين"، وخسروا نِعم ما فوقهم ونِعم ما تحتهم، ودخل الذل والعار والشتات والضلال في عقور بيوتهم .
ولازالت الأمة مُغْربلة ومُمتَحنة حتى ساعة الظهور المباركة ف (هل إليك يا ابن أحمد سبيل فتلقى، هل يتصل يومنا بغَدِه فنحظى، متى نَرد مناهلك الرّويّة فنروى،..)."دعاء الندبة".
ثَبَّتنا اللهُ وإيَّاكم عَلى حُسنِ وَنِعْمَ الوِلاية .
اضافةتعليق
التعليقات