إن الذهنية العلوية بذكائها الحاد تعطينا حقائقاً من خلال تسلسل منطقي محكم، وتنتهي بنا إلى نتائج وهي إن الأفكار المتسلسلة بداهة، سواء كانت في خطب الإمام علي المرتجلة، أو في رسائله إلى عماله وولاته على الأمصار، معجزة أخرى من معجزات البيان العلوي وإذا ما اتجهنا للكشف عن مصادر الإعجاز في آيات البيان العلوي، فإننا بحاجة إلى أسفار لا متناهية، ولكننا هنا نورد موجزاً عن أهم ما قيل عن بلاغة الإمام (عليه السلام) وفصاحته.
قال الكاتب عبد الحميد بن يحيى (حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت) وذكر الخليل بن أحمد صاحب علم العروض: (احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل دليل على أنه إمام الكل) ملامح من عبقرية الإمام، وقال ابن نباتة: (حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب).
ومن هذه الدوحة اليانعة نبت غرس البلاغة عند زينب (عليه السلام)، ومن هذا السحاب الهاطل كان ارتواؤها، فإذا ما أينعت ثمارها، فليست إلا من تلك التربة الأم، والبيان الإلهي وإذا مــــا نطقت العقيلة حكمةً وهدايةً ونوراً، فما من طبيعة لصفات النور إلا الإشراق والبروز وإذا ما تكلمت، فليست تلك الكلمات إلا من ذلك النهج الكريم، والبلاغة السامية.
وحينما احتشد أهل الكوفة لملاقاة الركب النبوي وأقبلت ابنة علي (عليه السلام)، وقد التفت بالسواد، مجردة من كل شيء، إلا من هيبة الله التي أسبلها عليها، فدان لها كل شيء، وخضع لها كل شيء.
ولم تأت زينب (عليها السلام) الكوفة بجيش جرار، ولا بألوية خفاقة، ولا بسيوف مشرعة إنما جاءت على عجاف النوق، يحيط بها أطفال يتامى، ونساء أرامل من كل شيء، إلا مــــن عزتهـــا وكبريائها، وشموخها العلوي، فما رأتها فلول أهل الكوفة، المنهزمة في ميدان النبل والكرامة، إلا وارتعدت فرائصهم.
يقول خزيمة الأسدي: «دخلت الكوفة بعد مقتل الحسين.. فلم أر خضرة أنطق منها، كأنها تنزع عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب»، حيث أشارت عليهم أن اسكتوا، فطأطأوا رؤوسهم خزياً، وندماً على حين مضت تقول: «أما بعد؛ يا أهل الكوفة، أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ألا ساء ما تزرون أي والله فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلاً، فقد ذهبتم بعارها وشنارها، فلن تدحضوها بفل أبداً، وكيف تدحضون قتل سبط خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، ومدار، حجتكم ومنار مهجتكم، وهو سيد شباب أهل الجنة؟ لقد أتيتم بها شوهاء خرقاء!
أتعجبون لو أمطرت دماً؟ ألا ساء ما سولت لكم أنفسكم، وإن سخط الله عليكم وبالعذاب أنتم خالدون، أتدرون أي كبد فريتم وأي دم سفكتم، وأي كريمة أبرزتم؟ لقد جئتم شيئاً إداً، تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هداً.
وما كانت بلاغتها تستتر عنها حين مواقف البلاء والكرب بل كلما قارعتها الخطوب زادتها صلابة وعزماً، وكالفيصل كلما طرق صار أمضى، وكالنجوم كلما اشتدت حلكة الليل ازدانت بريقاً ولمعاناً، إن البيان العلوي لا يخبو ولا يهضم؛ لأنه بيان استمد قوته من الحق، فكان رائده القرآن ومعلمه رسول الإنسانية (صلى الله عليه وآله)، هكذا كان البيان العلوي، يقارع تيجان السلاطين في عقــــر بلاطهم، ويتردد صداه في جنبات قصورهم، فتأخذهم رجفة رهيبة، فكلما زمجر رعد السماء، توهج البرق سياطا، تلهب ضمائر الغافلين، وتؤرق ليلهم.
قدمت مع السبايا محمولين على الأقتاب، وأدخلن البلاط الأموي فتقدمت زينب (عليها السلام) بجلالها، وهيبتها تناشد الطاغية يزيد: «أظننت يا يزيد أنه حين أخذت علينا بأطراف الأرض، وأكناف السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أن بنا هوانا على الله، وأن بك عليه كرامة، وتوهمت أن هذا لعظيم خطرك، فشمخت بأنفك ونظرت بعطفك جذلان فرحاً، حيث رأيت الدنيا مستوثقةً لك، والأمور متسقة عليك، إن الله إن أمهلك فهو قوله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) 178 آل عمران .
مقتبس من كتاب السيدة زينب (عليها السلام) بطولة ورسالة للمؤلف حسن الشيخ
اضافةتعليق
التعليقات