ابتدأ الإمام (عليه السلام) في دعاء له (١) لمن قُتر في رزقه بذكر حقيقة يحتاج كل واحد منا معرفتها وهي إننا في دار ابتلاء، بقوله: [اللهم إنك ابتليتنا]، أي إننا بإختبار لكن هو منك يا رب، فمرة نحن نوقع أنفسنا بابتلاء وقد ننجو منه وننجح وقد نفشل ونتعلم منه، ولكن هنا الإمام يعلمنا حقيقة وبذات الوقت يعلمنا كيف نعترف بضعفنا أمام اختبارات الله تعالى كي نحوز المعونة.
فهذا الدعاء يكشف لنا أسباب أن يكون الإنسان ممن يعيش حالة الضيق في تحصيل رزقه، ويريد أن يزيل تلك الأحجار التي جعلت من طريق وصول أرزاقه اليه صعب وعسير، وهاتان الحجرتان هما (سوء الظن بالله تعالى وطول الأمل)، كما أتى بقوله: [في أرزاقنا بسوء الظن] التي هي الحجر الأول، وآثر ذلك هو في قوله: [حتى التمسنا أرزاقك من عند المرزوقين]، وبقوله: [وفي آجالنا بطول الأمل] والتي هي الحجر الثاني -إن صح التعبير- وبَيَنَ أثر ذلك بقوله: [وطمعنا بآمالنا في أعمار المعمرين]، وهنا يخطر في الذهن سؤالين:
السؤال الأول: ما الربط بين سوء الظن بالله تعالى وضيق الأرزاق؟
والجواب يمكن معرفته من العودة لكتاب الله نفهم ذلك، إذ نجد في قوله تعالى: {وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّـهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ …}(الفتح:٦)، إن من يسئ الظن بالله تعالى العليم الحكيم الرزاق فهو يجلب لنفسه سوء الأقدار -كما في الحديث القدسي المعروف : أنا عند ظن عبدي بي- وهذا السبب الظاهري لكون سوء الظن مقدمة لنتيجة هي الضيق في الرزق.
والملفت بالآية إنها تشير إلى سبب أعمق وهو إن صفة سوء الظن بالله تعالى نسبت إلى صنفين من الناس هما (المنافق والمشرك)، فهي تشير إلى وجود جذور لأمراض في النفس الإنسانية، منها ما هو خلل عقائدي في هذا الموصوف كأن يدعي حسن الظن بالله تعالى وهو في الواقع خلاف ذلك، وهذه من صفات المنافق إنه يظهر خلاف ما يبطن.
والخلل الآخر الذي ينتج عن الأول -عادة- وهو في السلوك، وهو كما عبرت عنه الآية [الشرك] فالذي لا يُحسن الظن بربه تراه ممن عينه على ذاك وهذا من المرزوقين، فيجعل لله تعالى شركاء في تحصيله لرزقه، لا إنه يعدهم أسباب يسببها هذا الرزاق سبحانه وتعالى.
السؤال الثاني: لماذا ربط الإمام بين الأرزاق والآجال؟
من الملفت إن الإمام جمع وربط بين الرزق والأجل في هذا الدعاء مع إنه دعاء يتحدث عن مشكلة التقتير في الرزق فقط، وهنا يمكن أن نورد احتمالات لفهم شيء من مراد الإمام، وهي:
الأول: في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(الملك:٢)، هذه الآية تشير إلى أن بين الحياة والممات رابط لا يمكن أن ينفك، وبما أن طلب الرزق والسعي لحصوله هو لا يكون إلا ضمن اطار حياة الإنسان، فما أن يأتي ألأجل حتى يكون الإنسان قد استوفى رزقه، فلا يبقى هناك انشغال نفسي لتحصيل الرزق.
لذا علاقة الإنسان وفهمه للموت وما بعده مرتبط بشكل مباشر مع علاقته بمفهوم الرزق، ففي الحديث قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "إنَّ أحدَكم لن يموتَ حتى يستكملَ رزقَه، فلا تستبطِئُوا الرِّزقَ، واتقوا اللهَ أيها الناسُ، وأَجمِلوا في الطَّلبِ، خُذوا ما حلَّ، ودَعوا ما حَرُمَ"(٢).
الثاني: بين الإمام إن الابتلاء بالآجال في جانبه السلبي -أي عدم النجاح به- هو مرتبط بطول أمل هذه النفس بأن أجل الله تعالى بعيد وهناك من هو أسوء حالاً ممن يرى أن الأجل أصلاً غير آت -كما يعبرون الموت لغيري وليس لي- فهذا ممن يعيش حالة من الانشغال التام في السعي لتحصيل كل ما في الدنيا من أرزاق مادية، والتذلل لكل الأسباب المادية والأشخاص من أجل بلوغها، وهذا ما يوصله لحالة من عدم القناعة مهما كان رزقه واسعا فيراه ضيقا.
أما من يؤمن بأن هناك أجل آت مهما طال العمر به في عالم الدنيا، سيكون صاحب نفس متزنة تجاه ما في الدنيا من أرزاق، وذو بصيرة في كيف يستثمر هذه الأرزاق فلا يكون سعيه دنيوي أو أخروي محض، بل يطلب ويسعى لهما معاً، وقبل كل شيء يكون متعلق بمسبب الأسباب، ومتعلق بالله تعالى الرزاق.
الحلول التي وضعها الإمام في هذا الدعاء لبلوغ السعة بعد الضيق في الرزق ؟
ابتدأ الإمام بالصلاة على النبي وآله لأنها مفتاح جواب كل دعاء، ثم ذكر عدة طلبات، وهي:
أولاً: [وهب لنا يقيناً صادقاً تكفينا به من مؤونة الطلب]، فعبارة (هب لنا) فيها إشارة إلى إننا نعترف لله تعالى إننا نطلب يقين عن غير استحقاق لأن النفس هي تميل لسوء الظن بطبيعتها، وهذا الاعتراف هو مفتاح استحقاق هذه الهبة، لتستقيم النفس وتعيش اليقين بل والصادق الذي ترى أثره في واقع صاحبها، فترمي عن ظهر صاحبها ثقل سوء الظن عندما تطلب الرزق، بل تعيش الكفاية الالهية فأياً كان الرزق الذي بين يديها، لأنه من الكافي فهو واسع وكافي.
ثانياً: [وألهمنا ثقة خالصة تعفينا بها من شدة النصب]، هنا الالهام هو بمثابة التذكير الدائم لهذه النفس بأن تعيش الثقة بهذا الرازق بأنه لا ينسى عبداً من عباده، ووصف الإمام هذه الثقة بأنها خالصة أي لا يشوبها سوء ظن أو تردد أو شك، فصاحب هذه الثقة الخالصة بالرزاق تراه يأخذ بالأسباب الطبيعية، ويجتهد لأنه واثق بعطاء مسبب الأسباب.
ثالثاً: [واجعل ما صرحت به من عدتك في وحيك، واتبعته من قسمك في كتابك قاطعاً لاهتمامنا بالرزق الذي تكفلت به، وحسماً للاشتغال بما ضمنت الكفاية له]، هنا ظاهر هذه الفقرة وكأن الإمام هنا يحثنا على فكرة التواكل في مسألة السعي وطلب الرزق، إلا أن العكس صحيح أي أنه يريد منا التوكل والسعي.
فللمتأمل بعبارة (قاطعاً للاهتمام- حاسماً للانشغال) بل حتى ما تقدم من طلبات (اليقين الصادق- الثقة الخالصة) يجدها طلبات ترتبط بالجانب النفسي أكثر من كونها ترتبط بالجانب السلوكي وإن كانت ستؤثر بشكل طبيعي ويترتب عليها أثر فيه، ولكن الإمام هنا يعطينا حلولاً لقلع جذور تلك الأمراض ليسلم بعد ذلك السلوك بشكل تلقائي، فهو يعالج الطريق الخطأ الذي نسلكه في الطلب والسعي والذي سببه هو خلل في الصور الذهنية والتصورات والمعتقدات النفسية تجاه هذه المسألة -تحصيل الرزق والرزاق-.
فإن الانشغال المبالغ به والتعلق السلبي بالأسباب المادية كـإجهاد النفس أو التذلل والاعتماد على الناس في تحصيل المزيد والمزيد من الأرزاق الدنيوية هي ما توصل الإنسان لذلك، فيعيش الخذلان الإلهي فلا يرى بركة في رزقه مثلاً، أو إن ما يحصله ينفقه على الأمراض التي تصيبه نتيجة هذا التعب والإجهاد والضغط الذي وضع نفسه فيه، فهو يرى أن الأرزاق محصورة بالأمور المادية، وقد يعيش الترف المادي ويُحصله لكنه على المستوى المعنوي والنفسي يعيش الضيق والتعب والفقر، والإمام هنا يعالج لنا هذا الأمر بهذه الطلبات.
ثم ختم الإمام دعائه بهاتين الآيتين [فقلت وقولك الحق الأصدق، وأقسمت وقسمك الأبر الأوفى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}(الذاريات:٢٢). ثم قلت: {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون}](الذاريات:٢٣)، فعندما يعيش الإنسان في داخله هذه الحقيقة ويصدقها ستكون حياته مصداقا لها، فلا يعيش الضيق في نظرته لما يُقدر له من رزق، ولا يُعاني من التعب في سعيه لطلب التوسعة في الرزق، بل إن مفهوم الرزق عنده أوسع من كونه المال والمتع الدنيوية.
—————
اضافةتعليق
التعليقات