لماذا عليّ ان اعتذر عن كوني الوحش الذي أصبحت عليه الآن، في حين انهم لا يعتذرون عن جعلي هكذا..
كل يوم وأنا أرى انظار تلك الحقودة ترمقني مع ابتسامة ثغرها الجانبية وهمساتها لمن حولها، مازالت على هذا النحو منذ اسبوع، لاتفارق مسامعي اشاعاتها، ولا نظراتها لقد حطمتني وابعدت عني كل من حولي..
كل يوم أعود للمنزل محطمة واقرر عدم الذهاب والبقاء مع ذاتي المنكسرة؛ كانت الثانوية اول طريق لي نحو الهاوية..
كان هذا أولَ ردٍ لها حين سألتها عن سبب عزلتها، حين تكونين طبيبة نفسية وتستمعين لكثير من الحكايات يومياً، وربما الاكثر منها يكون ممن هم كبيرون في السن، لكن حين تكون الحكايات لفتيات بعمر الزهور فهذا اكثر ما يثير الانتباه، وهذه الفتاة جعلتني ارنو اليها وهي تحاول انتزاع قناع الالم الذي يسيطر عليها، ثم ذهبت وخطواتها متثاقلة وهي تحمل حقيبتها بشكل مبعثر كأنها لا تريد الحياة، هي قليلة الكلام لكن مجرد ردها علي هو انجاز بحد ذاته، بتُ افكر كثيراً، كيف سأخرجها من عُزلتها هذه، كيف لها ان تسرد قصتها كي اساعدها لانتزاع قناع الألم؟
مرت عليها جلستين ولم تأتِ انها الجلسة الثالثة الساعة العاشرة والنصف إنه موعدها، هل ياترى ستأتي؟؟ طُرق الباب، انها المساعدة تُخبرني بزيارة مريض آخر.
- تفضلي
- دكتورة انها ندى سلمان..
دعيها تتفضل، لم أُصدق انها أتت، كدت أفقد الامل بعودتها.. ها هي قد أتت بخطواتها المتثاقلة وشكلها شبه المبعثر وروحها المنكسرة، إنها ندى، وأي ندى، ندى الحزن..
أشرت لها بالجلوس على السرير، فهي من أول زيارة لفتت انتباهي وبتُ اعلم انها شبه تتكلم…
- كيف حالك ياندى؟
- أجبروني على المجيء، وانا لا أحبذ هذا فأنا لستُ مجنونة، بل تفكيركم هو المجنون..
- اهدئي يا ندى وعدِّيني صديقة لك
- الاصدقاء بالنسبة لي؛ مسمى يقودنا نحو الهاوية..
- اممم، اذاً لأكون اخت لك
- لكن الاخت كذلك تركتني بين ايديهم ولم تدافع قط عني، تركتني لأكون ضحية تفكيرهم وأسيرة خطيئتي…
- اذاً لأكون أي شيء، اعتبريني دفتر لمذكراتك فالكلام حقاً يريح..
- ومن قال انا لا اتكلم! داخلي براكين من الكلام، كل يوم أتكلم مع ذاك الشبح الذي يراودني يومياً وانا أجلس وحيدة..
- أي شبح يا ندى وهل ترين اشباح!!
- أنا لست مجنونة، وأنا فعلاً أرى شبح تلك الطفلة التي قتلتها ألسن الناس والثقة المطلقة، تلك الفتاة البريئة التي طالما نادت علي وصرخت بألّا اتبع تلك الفتيات..
- نعم ندى اكملي أي فتيات..
- أي فتيات من قال فتيات، انا سأذهب مع السلامة…
لم امنعها، فعلاً قد انتهى وقتها، لكن حتى الآن لم تكمل الاطروحة لدي، كيف سأعالجها وهي باتت ترى نفسها قبيل الخطيئة، وماهي تلك الخطيئة؛ هل يا ترى… لا اعلم، آمل ان تأتي مرة ثانية…
غادرتني كما غادرتني أول مرة، آه من تلك المتثاقلة، لاتزال صغيرة على أن تكون بهذا البرود لاتزال بعمر الزهور...
عدتُ للبيت بعد يوم طويل من التعب، وضجيج المرضى، وضعتُ رأسي على الوسادة علّني أغفو قليلاً، إنها ندى أراها تنادي علي، وتصرخ: ساعديني، بصوتها المبحوح، هي تبعدني بحفرة عميقة، كيف سأصل لها، صرخاتها تكاد تفقدني السيطرة، صحوتُ على رنين الهاتف، إنهن الصديقات لا ارغب بالذهاب لأي مكان، فالحلم بات يكون وسواس عندي!! ما قصتها أريد ان اراها، اتصلت بالمساعدة وطلبت عنوان ندى سلمان، غيرتُ ملابسي ما إن وصلني العنوان ذهبتُ على فوري، انها قرابة الثامنة مساءاً، وصلت وطرقت الباب، خرجت والدتها تفاجئت من قدومي رحبت بي على اكمل وجه و دخلت، طلبت منها رؤية ندى قالت لي: تفضلي سأناديها، طلبتُ أن اذهب انا اليها، أخذتني وأنا اسير وراءها الى الاعلى في نهاية الممر، انه مظلم شيء ما.
قالت: نعتذر ف ندى لا تحب الانوار الكثيرة.
اشعر بطاقة سلبية هنا راودني الخوف لشيء ما، طرقت الباب، وذهبت امها لكن لم تجب ندى، فتحته قليلاً، كانت تجلس منحنية تضع رأسها بين قدميها، رفعته واذا بوجهها الشاحب وعينيها ذات البريق الغامق كأنها حكاية مات صاحبها… نظرت يمينها، هناك رضيع، نظرت لي بنظرة حزينة جداً ونظرت للطفل ثم سالت دموعها كأنها شلال يتدفق وسط نور خافت، تقطع وتيني هل هي متزوجة؟ هل هي ام؟ من هذا الطفل؟ في خاطري اسئلة كثيرة يمنعني التسرع من السؤال فهي ليست مفرطة في الحديث…
ثم بادرت بالحديث قائلة:
انه السجن، هذا الطفل هو سجني الذي يمنعني من المغادرة نحو السماء، اخشى تركه للحياة دون أم بعد ان تركني اباه بسماع احاديث تلك الحقودة التي تسمى بالصديقة فهي لم تكتفِ بطردي من المدرسة بل طردتني من كل حياتي..
ثم اجهشت بالبكاء، اسرعت نحوها احتضنتها، شهقاتها تسحب بوتيني الى الخارج اكاد ابكي وانظر للطفل كأنه ملاك من السماء، قلت لها: تحدثي ياندى لتستريحي، باتت كلماتها تخرج من حنجرة ممزقة واصوات لا أميزها ما بين شهيق الألم والزفير، كأن روحها تخرج من جسدها قائلة: كل روايتي بدأت من اتصال هاتفي، وكلمة احبك، تطورت للقاء ثم الى الهاوية، خشيت الاستمرار فما عدت احتمل تصرفاتهن البعيدة عن الاخلاق لكن بتنَ يُهدّدْنني ثم نشرن عني الاحاديث، فلم احتمل كثيراً حتى تشاجرت ثم طردوني من شباك عائلتي الى زنزانة الزوج ومن ثم الى واقع مرير انتهى بكلام قاس وكلمة (طالق)، بعدها علمت انها لم تكتفِ بخروجي من الدراسة بل سلبت حياتي، ندمت لأني لم استمع لتلك التي تتحدث داخلي، ندمت حقاً ثم شهقت بقوة: انا اكره الجميع، وصمتت..
عم السكون، لا اسمع نفسها، ما بها، حقاً بتُ اخشى ان اتحدث، دموعي حرقت وجنتاي، بصعوبة رفعت يدي لأرى وجهها والطفل بدأ يصرخ بشكل لايصدق كأنه يعلم ان هناك شيء حدث، رفعت رأسها، حدثتها، صفعتها، لكنها لم تجب، صرخت لكن الحقيقة انها رحلت نحو السماء، وكانت ضحية رفاق السوء، رحلت تاركة ملاكاً..
واجهت قسوة الناس، وكانت تفوح منها البراءة الملطخة بالحزن.. هي حقاً من بين مرضاي، كانت استثناء جعلتني اعتزل ذاتي لفترة..
رفقاً بهن يا بلدي لاتجعلوهن وئد الحياة ولاتكبلوهن في زنزانات مازلن عليها صغيرات..
اضافةتعليق
التعليقات
كربلاء2017-04-29