تأتي أهمية الذكاء في القدرة على اكتشاف الايديولوجية الصائبة واختيارها كمنهج فكري للحياة من بين عشرات الايديولوجيات، فالذكاء يدعو الانسان إلى البحث من أجل الاكتشاف عن طريق التحليل والدراسة والنظر وبالعكس فإن الجهل يدعو إلى الاتباع والتقليد الأعمى، ويحكى أن إعرابياً كان يبحث عن الحق فدله الناس إلى مجموعة من أحبار اليهود وسألهم عن معجزة نبيهم فأشاروا الى عصى نبي الله موسى وسأل اين هذه العصا؟ قالوا له لا نعلم وإن وجدت فأنها لا تسعى كما كانت بيد موسى (عليه السلام)، فأجاب الاعرابي: ديناً معجزته عصى لا تعمل بوفاة صاحبها ليست جديرة بالإتباع، ثم قابل هذا الباحث عن الدين الجدير باتباعه فوجد عالماً يتعبد على شريعة عيسى (عليه السلام) فسأله ترى ما هي معجزة نبيكم؟ فقال العالم أنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص والأعمى بإذن الله، فسأله هل هذه المعجزة قائمة إلى يومنا هذا؟ أجاب كلا إنها كانت لنبي الله عيسى في حياته وليس لأحد غيره، فقال الباحث ديناً انتهت صلاحية معجزته لا تنفع بالاتباع، ولا أتبع إلا دينًا يحمل معجزة خالدة، ولما تبين له القرآن الكريم باعتباره معجزة خالدة لخاتم النبيين محمد إلى يوم القيامة أيقن بأنها الدين شريعة الله ودستور الانسانية هي الخالدة إلى يوم القيامة.
وكذلك تبرز أهمية الذكاء في اختيار الزوج لزوجته على أسس سليمة تتعلق بالمساحات المشتركة في القيم والمبادئ والثقافة والعادات والتقاليد واللغة والمواطنة ونبذ الاختيار على أساس المظاهر الخارجية كالجمال والجاه مثلا، وأن قيمة الذكاء تبرز في نجاح الانسان في ترتيب العلاقات الاجتماعية على أسس قيمية مشتركة ابتداء من اختيار الأصدقاء إلى انتخاب الفرع الدراسي الذي يتناغم مع رغبة الإنسان وحبه من جهة وعلى المستقبل المضمون للحصول على شهادة تمكنه من العمل في مجالات راقية.
ومهما مضى يتبين أن من أهم العوامل التي تؤثر في صياغة التفكير الإنساني هي القدرة على الاختيار التي يحددها الذكاء وتتفاوت من إنسان لآخر كإحدى العوامل التي يرثها الإنسان عن آبائه أو يكتسبها عبر التعلم والتجربة والضرورة تحتم على المؤسسات التربوية تنمية مهارة الذكاء ويقظتها ابتداءاً عند الأطفال ومروراً بالشباب وانتهاء بالمراحل المتقدمة من العمر، ولا حد في تنمية هذه المهارة مع أهمية التركيز على مرحلة الطفولة، وهي كفيلة بدفع الأجيال إلى لغة الحوار والتواصل وتشيع سنة الاحترام والألفة والتراحم، ومن الجهل أن يركز الآباء على إخفاقات أولادهم وسلبياتهم لأن ذلك يرسخها في انفسهم بينما التركيز على الايجابيات ترسخها وتنميها في شخصيتهم وتمحي ما ورد من سلبياتهم.
ومن الذكاء أن يغض الآباء عن النمم والشطحات الصغيرة التي تنشأ من سوء الفهم أو الاختلاف في طريقة التفكير واللغة عند أبنائهم، ومن الذكاء أن يقدر الآباء المهارات المتميزة للأبناء واذكائها بدلاً من تهميشها والغفلة عنها، وقد بعث الله خاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وآله) من أجل أن يثير دفائن العقول لا اعتقال العقل كما يفعل دعاة حزب المصاهرة الأموية الصهيونية، ومن مظاهر نهضة الأمم تشجيع القراءة والكتابة ودعم دور النشر والترجمة والمكتبات وابادة حالات الأمية السائدة سيما في أمة اقرأ التي اعتقل فيها الكتاب والمفكرون وأغلقت فيها دور النشر والمؤسسات الثقافية، وقد ساهم الحكام في طمس الآثار التي تشيد حالة الذكاء وكان من أخطرها حرق المكتبات ودور النشر، ورأينا كيف أمر ذلك الحاكم عامله على مصر بحرق مكتبة الإسكندرية التي: كانت تضم أكثر من سبعمائة مجلد من أساطين الفكر والفلسفة وسار على نفس النهج يوسف الأيوبي بإتلاف مكتبة القصر الكبير التي أسسها الفاطميون وهي تضم زهاء مليونين مجلد (المقريزي في كتابه المواعظ والاعتبار ج 1 ص 159).
وبعد أن تعرفنا على ورشة عمل العقل سوف نرى في الأوراق القادمة كيف ترك الصراع والتقاطع بين الآباء والأبناء آثاره في صناعة حالات التصحر القيمي والقحط الأخلاقي في مجتمعاتنا والسبل الكفيلة بتنمية الذكاء والمعرفة وهي غايتنا من هذا المشوار.
اضافةتعليق
التعليقات