بعض البلدان مليئة بالأشخاص المتعلمين الذين تكون هناك حاجة ماسة إلى مهاراتهم. لكن هناك حواجز تحول دون استغلال هذه المهارات مع الوظائف المناسبة، وهو ما يؤدي إلى "عدم استغلال العقول".
في عام 2019، عندما رحل محمد الظاهري عن مدينة صنعاء اليمنية التي دمرتها القنابل وانتقل إلى ولاية ميشيغان الأمريكية، كان يعتقد أنه سيتمكن من مواصلة عمله كمبرمج كمبيوتر، خاصة وأنه يمتلك خبرة في هذا المجال لمدة 15 عامًا، بالإضافة إلى شهادة جامعية عليا.
ومع ذلك، لم يكن الأمر بهذه السهولة، كما يقول الظاهري، الذي يبلغ من العمر 42 عامًا الآن. لقد تقدم بطلب لأكثر من 100 وظيفة خلال العامين التاليين، لكنه كان يتلقى رفضا بعد الآخر.
غالبًا ما كانت طلبات التوظيف تسأل عن خبرته في الولايات المتحدة، وهو ما كان بمثابة معضلة كبيرة، إذ كان يحتاج إلى خبرة محلية للحصول على وظيفة، لكنه في نفس الوقت كان بحاجة إلى وظيفة من أجل الحصول على خبرة محلية!.
لقد كان الأمر محبطًا بشكل خاص لأنه، بناءً على التوصيف الوظيفي، كان مؤهلا تماما للحصول على هذه الوظائف، ولم يكن يطالب براتب مرتفع.
في غضون ذلك، كان الظاهري بحاجة لكسب المال. ويقول عن ذلك: "كنت أعمل في العديد من الوظائف التي ليس لها علاقة بحياتي المهنية أو حياتي بشكل عام" - كان يعمل على توصيل الزهور والأطعمة ومنتجات شركة أمازون.
لم يكن الظاهري سعيدا، وكان يريد أن يراه أبناؤه الأربعة كما كانوا يرونه دائمًا: كمبرمج محترف في قطاع تكنولوجيا المعلومات.
وجاءت نقطة التحول عندما أخبره أحد الأصدقاء عن برنامج حكومي يسمى "حلول المواهب الدولية بولاية ميشيغان"، والذي يهدف إلى تقليل حواجز التوظيف التي تواجه المهنيين القادمين من بلدان أخرى.
أمضى الظاهري الأشهر الستة التالية في حضور دورات ينظمها هذا البرنامج، ليلاً لتحسين لغته الإنجليزية وتحديث مهاراته في مجال تكنولوجيا المعلومات حتى يتمكن من الحصول على وظيفة جيدة تتناسب مع مهاراته.
على سبيل المثال، كانت سيرته الذاتية مكتوبة بتنسيق يمني طويل ومفصل. وأوضح مدربه في برنامج "حلول المواهب الدولية بولاية ميشيغان" أن أنظمة تتبع المتقدمين التي تستخدمها العديد من الشركات من المحتمل أن تستبعد سيرته الذاتية تلقائيًا بسبب الاختلافات الصغيرة في التنسيق.
وأتى التدريب ثماره قبل سبعة أشهر من الآن، عندما عُين في قسم الدعم الفني بأحد المستشفيات. لكن قصته توضح إلى أي مدى يمكن أن يكون الأمر شاقًا ومرهقًا لمهني متعلم يسعى للعمل في نفس الوظيفة بعد الهجرة.
ولمجموعة من الأسباب، بما في ذلك عقبات الترخيص وقضايا اللغة والتمييز، لا يستطيع العديد من المهاجرين استخدام مهاراتهم في البلدان الجديدة التي انتقلوا إليها، وينتهي بهم الأمر بالعمل في وظائف منخفضة الأجر وتتطلب مهارات أقل من تلك التي شغلوها سابقًا.
إن هذه الظاهرة، التي تُعرف أحيانًا باسم "عدم استغلال العقول"، تؤدي إلى خسارة كلا الطرفين - المهاجر والبلد الجديد الذي ينتقل إليه - إذ لا تُستغل مهارات هؤلاء الأشخاص كما ينبغي. ويعمل عدد من برامج الدعم على سد هذه الفجوة، لكن المشكلة لا تزال كبيرة وهيكلية.
تأتي بعض البيانات الأكثر وضوحًا عن "عدم استغلال العقول" من الولايات المتحدة، فهناك "يعاني ما يتراوح بين 20 في المئة و25 في المئة من المهاجرين الجامعيين من البطالة،" حسب جين باتالوفا، التي تحلل بيانات الهجرة في معهد سياسة الهجرة، والتي تضيف: "لذا فهم إما عاطلون عن العمل أو يعملون في وظائف لا تتطلب أكثر من المدرسة الثانوية"، على سبيل المثال كمربيات أطفال أو صرافين أو سائقين.
ومن المرجح أن تكون بعض الفئات عاطلة عن العمل بشكل خاص، ولا سيما المهاجرون من أصحاب البشرة السمراء ومن ذوي الأصول الأسبانية، والأقل إتقانا للغة الإنجليزية وطالبي اللجوء.
وتختلف الأنماط أيضًا حسب المهنة، إذ يشير تحليل أجراه معهد سياسة الهجرة إلى أنه في الولايات المتحدة، 15 في المئة من خريجي الصحة والطب المدربين دوليًا عاطلون عن العمل، مقارنة بتسعة في المئة من المدربين محليا.
ووفقًا لباتالوفا، فإن ظاهرة "عدم استغلال العقول" أصبحت أكثر انتشارًا بسبب اتجاهات الهجرة والتعليم. على سبيل المثال، تتزايد نسبة اللاجئين ذوي المهارات العالية، وفي الوقت نفسه ترتفع نسبة الوظائف التي تتطلب درجات وشهادات علمية. تقول باتالوفا: " المهن التي تتطلب ترخيصًا يصعب التعرف عليها والتوفيق بينها عبر الحدود الدولية".
هناك العديد من الأسباب التي تجعل الشخص المتعلم غير قادر على توظيف مهاراته بعد وصوله إلى بلد جديد. ويمكن أن تكون العقبات البيروقراطية والقانونية كبيرة. وحتى إذا اعتبرت الدرجات والمؤهلات العلمية صالحة عبر الحدود، فقد لا يتمكن النازحون من تقديم دليل عليها.
كما أن بعض حالات الهجرة تمنع الأشخاص من العمل. وتشمل المشكلات الأخرى الكفاءة اللغوية المحدودة والشبكات الاجتماعية المحدودة (التي غالبًا ما توفر معلومات واتصالات للعمل).
ويمكن أن تؤدي الضغوط السياسية أيضًا إلى منع المهاجرين المهرة من العمل. وقد يشعر العمال المولودون محليًا - خاصة في الاقتصادات الضعيفة - بالاستياء إذا شعروا أن العمال المولودين في الخارج يتلقون المساعدة في وظائف تتطلب مهارات.
بشكل عام، فإن السياسات التي تركز على المكاسب قصيرة الأجل قد ينتهي بها الأمر إلى فقدان الفوائد طويلة الأجل. على سبيل المثال، صُمم العديد من برامج إعادة التوطين لمساعدة اللاجئين على تحقيق الاكتفاء الذاتي في أسرع وقت ممكن. لكن على أرض الواقع، حسب باتالوفا، فإن هذا يعني أن الأشخاص ذوي الخلفيات المهنية يجري دفعهم "لتولي أي وظيفة، وعادة ما تكون هذه الوظائف منخفضة المهارات، بدون تطور وظيفي، لذا يجد الأشخاص أنفسهم محاصرين نوعًا ما داخل تلك الدائرة المفرغة".
ومع ذلك، فإن النظام الذي يوجه المهاجرين إلى وظائف لا تستخدم جميع مهاراتهم تكون له تداعيات سلبية، إذ قدر معهد سياسة الهجرة الأجور المفقودة للمهاجرين العاطلين عن العمل في الولايات المتحدة بما يقرب من 40 مليار دولار (29.5 مليار جنيه إسترليني) كل عام.
ويعود السبب في ذلك إلى أن - كما يتضح من تجربة الظاهري - حتى العثور على وظيفة في قطاع به متطلبات ترخيص قليلة نسبيًا أمر صعب للغاية. لكن العمل في وظائف تتطلب نفس مهاراتك يمكن أن يكون صعبًا بشكل خاص في مهن مثل الرعاية الصحية، والتي تحتاج إلى متطلبات مرهقة ومكلفة للترخيص.
وقد يقرر طبيب الأسنان الذي يتعين عليه أن يبدأ برنامجًا للحصول على درجة علمية من الصفر - بدلاً من مجرد الحصول على دورة إضافية للحصول على مؤهل متوافق مع مؤهله الأصلي - أن قيادة سيارة أجرة هي المسار الوحيد الممكن.
وتسلط قصة أبيغيل ساندوفال الضوء على بعض هذه التحديات. فبعد تدريبها كطبيبة، لم تتمكن من ممارسة الطب إلا لمدة عام واحد فقط في ولاية كوجيديس الفنزويلية قبل أن تضطر إلى المغادرة، كجزء من أزمة اللاجئين والمهاجرين في فنزويلا.
وفي عام 2015، ذهبت ساندوفال إلى بنما، حيث عملت كمساعدة طبية. وفي عام 2017، هاجرت إلى الأرجنتين للحصول على درجة الدراسات العليا في الطب التجميلي.
كان من الصعب على ساندوفال، البالغة من العمر الآن 31 عامًا، التكيف مع كل ثقافة جديدة وكل نهج جديد لرعاية المرضى. ومع ذلك، وحتى بعد محاولتين لاستئناف حياتها المهنية، والحصول على درجة علمية إضافية، لم تستطع الاستمرار في العمل في المجال الطبي، واضطرت إلى الاستقالة بسبب المعاملة غير العادلة والأجر السيئ الأقل بكثير مما كان يحصل عليه زملاؤها الأرجنتينيون. تقول ساندوفال: "لم يُقدّروا عملي لأنني مهاجرة".
كان يتعين على ساندوفال أن تجد بديلاً. وخلال الوباء، بدأت هي وزوجها نشاطًا تجاريًا لبيع البيتزا قائمًا على التوصيل للمنازل، وأصبحت تكسب من البيتزا أكثر بكثير مما كانت تكسبه من الطب في بوينس آيرس.
تقول ساندوفال عن ذلك: "أنا أحب الطبخ دائما، وأحب القيام بذلك، لكنني درست الطب لأنه شغفي".
ومع ذلك، كانت ساندوفال تفضل العودة إلى الطب، لكن كان يجب أن تكون "في مكان يقدرون فيه كل المعرفة ويحترمون العاملين في مجال الصحة"، بما في ذلك القوى العاملة المهاجرة.
من الواضح أنه حتى في ظل وجود لغة مشتركة، يمكن أن يؤدي التمييز إلى إعاقة الحياة المهنية للمهاجرين. ولم تكن ساندوفال هي الوحيدة التي تعاني من ذلك، إذ وجدت إحدى الدراسات الاستقصائية للفنزويليين الذين يعيشون في الأرجنتين أن 36 في المئة منهم كانوا عاطلين عن العمل، و52 في المئة يعانون من البطالة المقنعة، على الرغم من أن معظمهم كانوا متعلمين ومن الطبقة المتوسطة عند وصولهم.
كيف يمكن معالجة مشكلة "عدم استغلال العقول"؟
سيتعين على الحكومات الجادة في مواجهة مشكلة "عدم استغلال العقول" فحص السياسات المتعلقة بسياسة الهجرة والدمج طويل الأمد. على سبيل المثال، يؤدي توسيع عدد المواقع التي يمكن للممرضات المولودات في الخارج إجراء اختبارات اللغة بها إلى تقليل أحد العوائق التي تحول دون بدء عملهن.
وداخل دول الاتحاد الأوروبي، هناك بعض الاعتراف المتبادل بالدرجات العلمية وتنسيق المتطلبات المهنية. تقول باتالوفا إن دول الآسيان (رابطة دول جنوب شرقى آسيا) تحاول أيضًا تقليل الحواجز التي تحول دون دمج العمالة من ذوي المهارات العالية.
ويُعد التعاون الإقليمي والحكومي إحدى الطرق الرئيسية للحد من ظاهرة "عدم استغلال العقول" - لكنه لا يحل بطريقة سحرية جميع المشكلات التي تُبقي الأشخاص المهرة بعيدًا عن العمل الذي يناسبهم. هنا، يتعين على أرباب العمل القيام بدورهم كما ينبغي.
تقول باتالوفا: "نحن نعلم أن عدم رغبة أرباب العمل في الاستعانة بهؤلاء العمال هو أمر حقيقي، ويمثل حاجزًا من الصعب للغاية التغلب عليه - لكنه ليس مستحيلًا".
ويجب القضاء على التمييز الصريح بالطبع. لكن يمكن أيضًا تثقيف أصحاب العمل فيما يتعلق بالمؤهلات العلمية في البلدان الأخرى، بالإضافة إلى الآثار الإقصائية لعمليات التوظيف التقليدية.
تتفهم آني فينتون، مديرة برنامج "حلول المواهب الدولية بولاية ميشيغان"، الذي انضم إليه الظاهري، تردد الشركات في هذا الصدد، نظرا لأن أصحاب العمل قد يعتقدون أن "هناك مستويات عالية من الأشياء المجهولة" عند التعامل مع الرعايا الأجانب.
لكنها تقول إن معدلات بقاء العمال في الشركات تميل إلى أن تكون أعلى بكثير بالنسبة للعمال المولودين في الخارج مقارنة بالذين ولدوا في الولايات المتحدة، وهي مجرد حجة واحدة لتسهيل توظيفهم.
وفي ميشيغان، كان الظاهري محظوظًا نسبيًا، لأنه كان معتادا منذ فترة طويلة على التحدث باللغة الإنجليزية لأن زوجته أمريكية، كما سبق له العمل مع متحدثين باللغة الإنجليزية في منظمة غير حكومية في اليمن.
يقول الظاهري: "لقد ساعدني ذلك كثيرًا عندما جئت إلى هنا. لم أواجه الصعوبة التي يواجهها بعض الناس فيما يتعلق باللغة".
كانت وظيفة الدعم الفني التي حصل عليها الظاهري بشق الأنفس هي وظيفة بدوام جزئي وقصيرة الأجل في البداية، لكن عقده منذ ذلك الحين أصبح بدوام كامل وجرى تمديده لمدة عام.
إنها ليست الوظيفة التي يحلم بها الظاهري، لأنها لا تمكنه من استغلال مهاراته الكاملة كمبرمج، لكنه سعيد بالعودة إلى قطاع التكنولوجيا. ويأمل الظاهري أن تكون هذه الوظيفة مجرد خطوة للعودة إلى السلم المهني، وأن يتمكن من استخدام المراجع والخبرات التي حصل عليها هناك للتقدم في حياته المهنية.
يقول الظاهري عن الحصول على هذه الفرصة: "بعد معاناة استمرت عامين، أنا سعيد بالتأكيد". وسيكون التحدي في السنوات القادمة هو ضمان عدم استبعاد الأشخاص القادرين مثل الظاهري وساندوفال من الوظائف التي هم في أمس الحاجة إليها. حسب بي بي سي
اضافةتعليق
التعليقات