بدأت الثورة الصناعية تقريبًا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وامتدت حتى مطلع القرن التاسع عشر، وإن اختراع التقنيات الجديدة غيّر المجتمعات الريفية المكوّنة من المزارعين والحرفيين الذين يصنعون البضائع يدويًا، إذ انتقل العديد من الناس من الريف إلى المدن المتنامية على نحو سريع، حيث عملوا بالمصانع المملوءة بالآلات.
خلقت الثورة الصناعية نموًا اقتصاديًا ووفّرت فرصًا عديدة، ولكن رافقت هذا التقدّم جوانب سلبية كثيرة، من الخطر البيئي والصحي ومخاطر الأمان، إلى ظروف المعيشة المزرية للعاملين وعوائلهم، ويقول المؤرخون إن العديد من هذه المشكلات استمر ونما في الثورة الصناعية الثانية، وهي فترة أخرى من التغيّر السريع قد بدأت في أواخر القرن التاسع عشر.
وإليكم بعض النتائج السلبية الأكثر تأثيرًا للثورة الصناعية:
الظروف المعيشية الصعبة للعاملين:
نمت المدن في أثناء الثورة الصناعية، ولم يعد هنالك ما يكفي من المساكن لكل أولئك الساكنين الجدد، الذين انخرطوا بقوة في الأحياء الشعبية الوضيعة، في حين فر المقيمون المترفون هربًا إلى الضواحي في فترة ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وقد استطلع مسؤول الصحة الحكومي د. ويليام هينري دونكان الظروف المعيشية، ووجد أن ثلث سكان المدن يعيشون في أقبية المنازل ذات الأرضية الترابية، ودون فتحات تهوية أو حتى نظام صرف صحي لمياه المجاري.
ما يقدّر بنحو ستة عشر شخصًا كانوا يعيشون في غرفة واحدة، ويتشاركون مرحاضًا عامًا واحدًا، وأدت قلة المياه النظيفة وقلة البالوعات إلى فيضان مياه المجاري وأقذارها من بالوعات الطابق السفلي، ما جعل العمال وعائلاتهم عرضة لأمراض معدية كالكوليرا.
في دراسة أجريت عام 1832 بعنوان «الظروف الأخلاقية والجسدية للطبقات العاملة في الصناعة القطنية في مدينة مانشستر»، وصف الطبيب والمصلح الاجتماعي جيمس فيليبس كاي النظام الغذائي الهزيل للكادحين منخفضي الأجر في المدن البريطانية الصناعية الذين يتمسكون برمق الحياة بصعوبة، استنادًا إلى فطور مكوّن من شاي أو قهوة مع كسرة خبز.
وأما وجبة منتصف النهار فتكون مؤلفة على نحو نموذجي من البطاطا المسلوقة ودهن الخنزير المذاب مع الزبدة، وأحيانًا تُدعم ببعض شرائح اللحم الدهني المقدد.
وبعد انتهاء العمل، قد يتناول العمال بعض الشاي الإضافي، والقليل من الخبز، أو دقيق الشوفان والبطاطا مرة أخرى. نتيجة لسوء التغذية كتب كاي: «لقد عانى العمال مرارًا وتكرارًا من مشكلات في معدهم وأحشائهم، نتج عنها خسارة الوزن، وامتلاكهم بشرةً شاحبةً صفراء».
نموذج حياة مقلق وغير مرضٍ:
كان على العمال الذين أتَوا من الأرياف إلى المدن العدول إلى نظام حياة مختلف تمامًا، مع القليل من الاستقلالية الشخصية. إذ كان عليهم الوصول عند إطلاق صافرة المصنع، وإلّا فسوف يواجهون الطردَ، وخسارةَ الأجورِ، وحتى إجبارهم على دفع غرامات مالية.
فحالما يصل العمال إلى العمل، فلن يستطيعوا التنقل بحرية في الأرجاء، أو كسب استراحة إن احتاجوا إليها، لأن ذلك يتطلب إيقاف ماكينات العمل، كانت أيامهم -على النقيض من الحرفيين في المدن الريفية- تتكون غالبًا من مهام متكررة وضغط مستمر لمواكبة ذلك.
«خطوة أسرع، ومراقبة أكثر، وفخر أقل»، هكذا قال بيتر إن ستيرنز المؤرخ في جامعة جورج ميسون؛ في كتابه الصادر سنة 2013 «الثورة الصناعية في تاريخ العالم».
أخيرًا عند انقضاء يوم العمل لن يتبقى لديهم الكثير من الوقت أو الطاقة لأي مصدر للاستجمام، ولجعل المشكلة أسوأ، فقد حظر مسؤولو المدينة الاحتفالات والأنشطة الأخرى التي يُستمتَع بها في القرى الريفية..
أماكن عمل خطرة:
من دون أخذ قوانين السلامة كثيرًا بالحسبان، قد تشكّل مصانع الثورة الصناعية خطورةً لدرجة مرعبة.
كما وصف بيتر كبيانو في كتابه سنة 2015 «الأيادي المغيّرة: الصناعة والتطور، وإعادة تشكيل الهيكلية الفيكتورية»؛ فقد واجه العمال خطرًا دائمًا من خسارة يدٍ في الآليات.
وجاء في تقرير لصحيفة معاصرة وصفت إصابات مريعة عانى منها عامل المطاحن دانييل بيكلي سنة 1830: «كانت يده اليسرى قد لُقطت ومُزِّقت، وأصابعه سُحقت قبل تمكّن زملاء عمله من إيقاف الأدوات. أخيرًا، تُوفّيَ نتيجةً للصدمة الأليمة».
وقد تعرضت مناجم تلك الحقبة -التي زُودت بالاحتياجات العامة لإبقاء آلات القوة البخارية على قيد العمل- إلى حوادث مريعة أيضًا.
في كتابهما الصادر سنة 2018: «العجز في الثورة الصناعية»؛ يصف ديفيد تورنر ودانييل بلاكي انفجارًا غازيًا في منجم فحم، ترك لدى جيمس جاكسون -رجل في السادسة والثلاثين من عمره- حروقًا واضحة في وجهه، ورقبته، وصدره، ويديه، وذراعيه، إضافةً إلى إصابات داخلية.
كان في حالة فظيعة لدرجةٍ تطلّبت منه تناول الأفيون للتأقلم مع الألم القاتل، وبعد ستة أسابيع من استرداد عافيته، قرر الطبيب أنه جاهز تمامًا للعودة إلى العمل، لكن مع ندبات دائمة نتيجةً للمصيبة التي لحقت به.
عمالة الأطفال:
رغم أن الأطفال كانوا يعملون قبل الثورة الصناعية، فقد خلق التنامي السريع للمصانع طلبًا أدى إلى جذب الشباب والأيتام الفقراء من ملاجئ مدينة لندن، وأسكِنوا في مهاجع العمل، وعملوا لساعات طويلة وكانوا محرومين من التعليم ومجبرين على القيام بأعمال البالغين الخطيرة، وقد عانى الأطفال غالبًا من مصائر مفزعة.
كشف كتاب جون براون -الذي نُشر عام 1832- عن مذكّرات عائدة لروبرت بلينسو (طفل يتيم) ، وتصف الفتاةَ الصغيرة ماري ريتشارد ذات الأعوام العشر التي علقت بآلة في معمل صناعة النسيج، وكتب براون: «بلحظة خاطفة جُرَّت الفتاة المسكينة بقوة لا تُقاوَم ورُميت على الأرض»، مضيفًا: «أطلقت صرخات تدمّر القلب بأعلى صوتها».
رأت أستاذة التاريخ في جامعة ألبيرتا (بيفرلي ليماير) أن «عمالة الأطفال المتواصلة التي استُخدمت لتحفيز الإنتاج الصناعي» كانت أسوأ تأثير سلبي للثورة الصناعية.
وقد لاحظت لاورا إل فريدر أستاذة التاريخ المتقاعدة في الجامعة الشمالية الشرقية ومؤلفة كتاب «الثورة الصناعية: تاريخ في مستندات»؛ أن مالكي المصانع دفعوا غالبًا للنساء نصف الأجر الذي يحصل عليه الرجال للعمل نفسه، مرتكزين على فرضية خاطئة تقول إن النساء لا يحتجن إلى دعم عائلاتهن، وأنهن يعملن فقط من أجل «مقدار ضئيل» للحصول على احتياجات شخصية ليست أساسية، يمكن أن يتكفّل بها الزوج.
التمييز ضد النساء العاملات استمر حتى الثورة الصناعية الثانية كما قال فريدر: «خرافة أن النساء يملكن أصابع رشيقة، وأنهن يستطعن تأدية الأعمال التكرارية السهلة أفضل من الرجال؛ أدت إزاحة الرجال عن أعمال المكتب التي كثرت في سبعينيات القرن التاسع عشر بعد تطوير الآلة الكاتبة».
الضرر البيئي:
كانت الثورة الصناعية تُزوَّد بالطاقة بوساطة الفحم المحترق، والكثير من المدن الصناعية الكبيرة بدأت بإطلاق كميات ضخمة من التلوث في الغلاف الجوي.
وذكرت دراسة نُشرت عام 2016 في مجلة ناتشر؛ أن تغير المناخ بسبب الأنشطة البشرية بدأ منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
على الرغم من كل تلك العلل، امتلكت الثورة الصناعية تأثيرات إيجابية.
اضافةتعليق
التعليقات