إن الخبراء الذين يدورون في فلك الحاكم الجائر، والذين يتوظفون في الحكومات الاستبدادية أو ينتمون إلى أحزاب مستبدة أو مستأثرة، وإن كانت تنشط في بلاد ديمقراطية، سواء أكانوا في وزارة الاقتصاد أم وزارة الزراعة أم وزارة الصناعة أم وزارة السياحة، أم كانوا في الشؤون المالية أو غير ذلك، سواء بصفة مدراء أم مساعدين أم مستشارين أم غير ذلك، يشكلون أكبر خطر على التنمية الاقتصادية، مهما كان علمهم وفيرًا وخبرتهم كبيرة. بل إن خطورتهم تزداد كلما ازدادوا علمًا وخبرة، وذلك لأنهم يقومون بتطويع لغة الأرقام والحقائق لتتماشى مع متمنيات الحاكم وأهدافه وطموحاته، لا العكس. ومن هنا تجدهم يتلاعبون بالأرقام، ويزوّرون الحقائق، لإقناع عامة الناس بالسياسات المالية والنقدية التضييقية: زيادة الضرائب، خفض الإنفاق العام، أو على العكس، الإنفاق الترفي أو الضار على صناعة الأسلحة والاستخبارات وغيرها، بل ويبشّرون الناس بالمسيرة الاقتصادية الظافرة!
على سبيل المثال، يجزم الخبراء بأن الاستدانة المفرطة من الخارج تشكل خطورة كبيرة على الاقتصاد وعلى مستقبل البلاد، لأنها ستوقعها في شباك تراكم الأقساط والفوائد المركبة، كما تدفع باتجاه التضخم وضعف العملة، وتؤدي إلى التبعية الاقتصادية، بل والسياسية أيضًا، وما إلى ذلك. ولكن الحاكم الأعلى قد يهوى الاستدانة ثم الاستدانة، كونه المنتفع الأكبر، إذ يمتص جزءًا كبيرًا منها لتغطية استهلاكه الترفي أو إنفاقه الاستعلائي على التسليح وغيره. لذلك، تجد العديد من الخبراء يتدافعون نحو تزوير الحقائق وتلميع صورة القروض الخارجية، والتبشير بالرخاء الاقتصادي الواعد الكبير، والسبب واضح: فلولا ذلك، لكان مصيرهم إما التهميش أو الطرد، هذا إن لم يكن الاعتقال والسجن وربما حتى التعذيب والإعدام. وعلى أقل تقدير، فإنهم سيُحرَمون من الغنائم الثمينة التي لا يمكنهم نيلها إلا عبر التزلف للمسؤولين والتملق للحكام.
وفي مثال آخر: قد لا تنهض البلاد إلا بسياسة تصالحية مع المعارضة في الداخل، ودول الجوار، والقوى المنافسة في الخارج. ولكن الحاكم، نتيجة ابتلائه بعُقَد نفسية أو حساسيات شخصية، أو بحالة جبروتية، أو اعتماده على معلومات خاطئة، قد يندفع نحو اتخاذ سياسة صدامية مع طرف أو أكثر، مما يشكل أكبر ضغط على الاقتصاد والمجتمع. وهنا يبرز دور العلماء من أعوان السلاطين، من بعض رجال الدين وبعض السياسيين والاقتصاديين، مع حشد من الإعلاميين، الذين يوفرون الإطار الشرعي الديني (الثانوي)، والعلمي ـ الاقتصادي، والفكري ـ التقني، لذلك كلّه.
هل يشكل الخبراء ذوو الولاءات الأجنبية خطورة؟
إن خطط التنمية الاقتصادية وغيرها لا يمكن أن تُوكل إلا إلى الخبراء المستقلين. فإن من الخطأ الاستراتيجي الاعتماد (1) في الخطط التنموية على الخبراء الأجانب، أو على صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي؛ ذلك أن ولاء هؤلاء يعود، في الأساس، إلى دول أخرى، وإلى المنظمة أو الجهة التي وصلوا على أكتافها إلى القمة، والتي تمنحهم رواتب ومكافآت مجزية أيضًا. فإذا تعارضت مصالح بلادنا مع مصالحهم الشخصية أو مع مصالح بلادهم؛ ترى: مصلحة أي بلد يُقدّمون؟ وذلك حتى بعد فرض نزاهتهم، فكيف لو كان بعضهم، في الأساس، انتهازيين؟ خاصة وقد أصبح من أبجديات علم السياسة والاقتصاد أن الخبرة شيء، والنزاهة شيء آخر.
خطورة الخبراء أسرى الأهواء
إن خطط التنمية لا يصح أن يضعها أو يشارك في وضعها خبراء لا يتمتعون بالصلاح، ولا يتحلّون بالنزاهة التامة والورع الحقيقي؛ لأن من لم يُصلحه علمه، كيف يمكن أن يُعتمَد عليه في وضع خطة أو خطط تنموية تستهدف إصلاح شؤون العباد والبلاد؟ بل إن من لم يُصلحه علمه، لهو جاهل، ولذلك قال (عليه السلام): "كفى بالعالم جهلاً أن يُنافي علمه عمله" (2). لأن أبرز خصائص العلم الهداية والإرشاد، فمن لم يهده علمه ولم يرشده، فهو والجاهل سواء، بل هو أسوأ حالاً من الجاهل، والحجة عليه أتم، والحسرة عليه أعظم؛ أو هو، في الحقيقة، جاهل بتطبيق الكليات على المصاديق، وفي ترجمة علمه إلى عمل.
ومن هنا، فإن علماء الدين أو الخبراء والمتخصصين، إذا وجدناهم يحومون حول مدارات الأهواء والشهوات والمصالح، أو شاهدناهم يدورون في فلك الملوك والجبابرة والرؤساء والوزراء، أو يدافعون عن المستبدين أو المتحزّبين، فلنعلم أنهم على ضلال، وأنهم ممن عظُمت جريمتهم وجريرتهم، إلا لو ثبت العكس، وما أقل من يثبت ذلك وما أصعبه! وذلك لأن الطغاة لا يستريحون إلى العالم الذي يقول الحق ويدافع عن حقوق الناس، فكيف يمكنهم أن يتعايشوا معه أو يتحمّلوه؟ اللهم إلا أن يتحول إلى آلة في قطار جبروتهم وسلطانهم.
اضافةتعليق
التعليقات